المنشورات
دين دعبل
وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، وكم أثبت نسباً بنسب ولا أرتاب أن دعبلاً كان على رأي الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية، ومن ديارهم ناشية.
وقد اختلف في أبي نواس: ادعي له التأله وأنه كان يقضي صلوات نهاره في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه، وذلك أن العرب جاءها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ترغب إلى القصيد، وتقصر هممها عن الفصيد، فاتبعه منها متبعون، والله أعلم بما يوعون، فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسق ملكه على أركانه، مازج العرب غيرهم من الطوائف، وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق، فمالت منهم طائفة كثيرة. ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور، حتى إن أصحاب السير يزعمون أن آدم صلى الله عليه وسلم، بعث إلى أولاده فأنذرهم على ذلك المنهاج إلى اليوم.
وبعض العلماء يقول إن سادات قريش كانوا زنادقة. وما أجدرهم بذلك! وقال شاعرهم يرثي قتلى بدر، وتروي لشداد بن الأسود الليثي:
ألمت بالتحية أم بكر ... فحيوا أم بكر بالسلام
وكائن بالطوي طوي بدر ... من الأحساب والقوم الكرام
وكائن بالطوي طوي بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام
ألا يا أم بكر لا تكرى ... على الكأس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه، وكان قرماً ... من الأقوام شراب المدام
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه، ... فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعِدونا بن كبشة أن سنحيا؟ ... وكيف حياة أصداء وهام؟
أتترك أن ترد الموت عني، ... وتحييني إذا بليت عظامي؟
ولا يدعي مثل هذه الدعاوي إلا من يستبسل وراءها للحمام، ولا يأسف له عند الإلمام.
وحدثت أن أبا الطيب أيام كان إقطاعه " بصف " رؤي يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب وأنه صلى ركعتين، وذلك في وقت العصر، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر، وأن القصر له جائز.
وحدثني الثقة عنه حديثاً معناه: أنه لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل. وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل، فتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.
وحدثت أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحاً مفرطاً، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه، وشدها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلَّها في يومك. وعد له أيّاماً وليالي، وإن ذلك الكاتب قبل منه، فبرىء الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: هو كمحيي الأموات.
وحدث رجل: كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد ذلك الكلب قد مات. فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما ذكر (ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل. والخريق سم الكلاب معروف) .
وأما القطربلي وابن أبي الأزهر فمن الزول اجتماعهما على تأليف كتابٍ، وقل ما يعرف مثل ذلك. ونحو منه قصة " الخالديين " اللذين كانا في الموصل وهما شاعران، وقد كانا عند سيف الدولة وانصرفا على حد مغاضبة. ولهما ديوان ينسب إليهما لا ينفرد فيه أحدهما بشيء دون الآخر إلى في أشياء قليلةٍ. وهذا متعذر في ولد آدم إذا كانت الجبلة على الخلاف وقلة الموافقة.
فأما أن يعمل الرجل شيئاً من كتابٍ، ثم يتمّه الآخر، فهو أسوغ في المعقول من أن يجتمع عليه الرجلان. والبغداديون يحكون أن أبا سعيد السيرافي عمل من كتابه المعروف بالمقنع أو الإقناع إلى باب التصغير، ثم توفي وأتّمه بعده ولده أبو محمد.
وقد يجوز مثل هذا، وليس عندهم فيه ريب، وحكى لي الثقة أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر بن السراج عمل من (الموجز) النصف الأول لرجل بزاز، ثم تقدم إلى أبي علي بإتمامه، وهذا لا يقال أنه من إنشاء أبي علي لأن الموضوع من (الموجز) ، هو منقول من كلام ابن السراج في (الأصول) وفي (الجمل) ، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ، لا أنه ابتدع شيئاً منه عنده.
والذين رووا ديوان أبي الطيب يحكون عنه أنه ولد سنة ثلاث وثلثمائة. وكان طلوعه إلى الشام سنة إحدى وعشرين، فأقام فيه برهة ثم عاد إلى العراق ولم تطل مدته هنالك. والدليل على صحة هذا الخبر أن مدائحه في صباه إنما هي في أهل الشام إلا قوله:
كفي أراني ويك لومك ألوما
وأما شكيته أهل الزمان إليه، فإنه سلك في ذلك منهاج المتقدمين، وقد كثر المقال في ذم الدهر حتى جاء في الحديث: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " وقد عرف معنى هذا الكلام، وأن باطنه ليس كظاهره، إذ كان الأنبياء عليهم السلام، لم يذهب أحد منهم إلى أن الدهر هو الخالق، ولا المعبود.
وقد جاء في الكتاب الكريم: " وما يهلكنا إلا الدَّهر " وقول بعض النّاس: الزمان حركة الفلك، لفظ لا حقيقة له. وفي كتاب سيبويه ما يدل على أن الزمان عنده: مضي الليل والنهار. وقد تعلق عليه في هذه العبارة.
وقد حددته حداً ما أجدره أن يكون قد سبق إليه إلا أني لم أسمعه، وهو أن يقال: الزمان شيء أقل جزءٍ منه يشتمل على جميع المدركات، وهو في ذلك ضد المكان، لأن أقل جزءٍ منه لا يمكن أن يشتمل على شي كما تشتمل عليه الظروف، فأما الكون فلا بد من تشبثه بما قل وكثر.
والذين قالوا: " وما يهلكنا إلى الدهر " وغير ذلك من المقال، مثل البيت المنسوب إلى الأخطل، وذكره حبيب بن أوسٍ لشمعلة التغلبي، وهو:
فإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وقول الآخر:
الدهر لاءم بين ألفتنا، ... وكذاك فرق بيننا الدهر
وقل أبي صخر:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا، سكن الدهر لم يدع أن أحداً منهم كان يقرب للأفلاك القرابين، ولا يزعم أنها تعقل، وإنما ذلك شيء يتوارثه الأمم في زمان بعد زمان.
مصادر و المراجع :
١- رسالة الغفران
المؤلف: أحمد بن
عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى:
449هـ)
الناشر: مطبعة
(أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر
صححها ووقف على
طبعها: إبراهيم اليازجي
الطبعة: الأولى،
1325 هـ - 1907 م
16 يوليو 2024
تعليقات (0)