المنشورات

شاتم الدهر

وكان في عبد القيس شاعر يقال له " شاتم الدهر "، وهو القائل:
ولما رأيت الدهر وعراً سبيله، ... وأبدى لنا وجهاً أزب مجدعا
وجبهة قرد كالشراك ضئيلة، ... وأنفاً، ولوى بالعثانين أخدعا
ذكرت الكرام الذاهبين أولي الندى ... وقلت لعمرو والحسام: ألا دعا
وأما غيظه على الزنادقة والملحدين فأجره الله عليه، كما أجره على الظمأ في طريق مكة، واصطلاء الشمس بعرفة، ومبيته بالمزدلقة. ولا ريب أنه ابتهل إلى الله، سبحانه، في الأيام المعدودات والمعلومات، أن يثبت هضاب الإسلام، ويقيم لمن اتبعه النير من الأعلام. ولكن الزندقة داء قديم، طالما حلم بها الأديم. وقد رأى بعض الفقهاء أن الرجل إذا ظهرت زندقته ثم تاب فزعاً من القتل، لم تقبل توبته. وليس كذلك غيرهم من الكفار، لأن المرتد إذا رجع قبل منه الرجوع.
ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يرون أصحاب شرعهم أنهم موالفون وهم فيما بطن مخالفون، ولا بد أن ينهتك مخادع، وتبدو من الشر جنادع.
وقد كانت ملوك فارس تقتل على الزندقة، والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية، لا يقولون بنبوة ولا كتاب.
وبشار إنما أخذ ذلك عن غيره، وقد روي أنه وجد في كتبه رفعة مكتوب فيها: إني أردت أن أهجو فلان بن فلان الهاشمي فصفحت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزعموا أنه كان يشار سيبويه، وأنه حضر يوماً حلقة يونس بن حبيبٍ فقال: هل ههنا من يرفع خبراً؟ فقالوا: لا فأنشدهم:
بني أمية هبوا من رقادكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ليس الخليفة بالموجود فالتمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود
وكان في الحلقة سيبويه، فيدعي بعض الناس أنه وشى به. وسيبويه، فيما أحسب كان أجل موضعاً من أن يدخل في هذه الدنيات، بل يعمد لأمور سنيات وحكى عنه أنه عاب عليه قوله:
على الغزلى من السلام، فطال ما ... لهوت بها في ظل مخضرة زهر
فقال سيبويه: لم تستعل العرب الغزلى، فقال بشار: هذا مثل قولهم البشكى والجمزي، ونحو ذلك.
وجاء بشار في شعره بالنينان (جمع نونٍ من السمك)
فيقال إنه أنكره عليه، وهذه أخبار لا تثبت. وفيما روي في كتاب سيبويه أن النون يجمع على نينان، فهذا نقض للخبر.
وذكر من نقل أخبار بشار أنه توعد سيبويه بالهجاء، وأنه تلافاه واستشهد بشعره. ويجوز أن يكون استشهاده به على نحو ما يذكره المتذاكرون في المجالس ومجامع القوم. وأصحاب بشارٍ يروون له هذا البيت:
وما كل ذي لبٍ بمؤيتك نصحه، ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب
وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله. وزعم غيره أنه لأبي الأسود الدؤلي.
ويقال: إن يعقوب بن داود وزير المهدي تحامل بشار حتى قتل، واختلف في سنه: فقيل كان يومئذ ابن ثمانين سنة، وقيل أكثر، والله العالم بحقيقة الأمر.
ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت فيما تقدم لأني عقدته بمشيئة الله، وإن الله لحليم وهاب.
وذكر صاحب كتاب الورقة جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة، وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم، بها علام الغيوب. وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفاً من السيف، فالآن ظهر نجيث القوم، وانغاصت التريكة عن أخبث رأل.
وكان في ذلك العصر رجل له أصدقاء من الشيعة وصديق زنديق، فدعا المتشيعة في بعض الأيام، فجاء الزنديق فقرع حلقة الباب وقال:
أصبحت جم بلابل الصدر، ... متقسم الأشجان والفكر
فقال صاحب المنزل: ويحك! مم ذا؟ فتركه الزنديق ومضى، فلقيه صاحب المأدبة فقال له: يا هذا، أردت أن توقعني فيما أكره (خوفاً من أن يظن أصدقاؤه أنه زنديق) فقال: ادعهم ثانية وأعملني بمكانهم. فلما حصلوا عنده، جاء الزنديق فقال:
أصبحت جم بلابل الصدر، ... متقسم الأشجان والفكر
فقالوا: ويحك! مما ذا؟ فقال:
مما جناه على أبي حسن ... عمر وصاحبه أبو بكر
وانصرف. ففرح الشيعة بذلك، ولقيه صاحب المنزل فقال: جزيت عني خيراً، فقد خلصتني من الشبهة! وكان يجلس في مجلس البصرة جماعة من أهل العلم، وكان فيهم رجل زنديق له سيفان، قد سمى أحدهما " الخير " والآخر " الفلح " فإذا سلم عليه رجل من المسلمين قال:
صبحك الخير ومساك الفلح
ثم يلتفت لأصحابه الذين قد عرفوا مكان السيفين فيقول:
سيفان كالبرق إذا البرق لمح
فأما قول الحكمي: تيه مغن وظرف زنديق فقد عيب عليه هذا المعنى، وقيل: إنه أراد رجلاً من بني الحارث كان معروفاً بالزندقة والظرف، وكان له موضع من السلطان.
وقوله في صدر هذا البيت:
نديم قيلٍ محدثه ملكٍ
فهو نحو من قول امريْ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب، ... إثماً من الله ولا واغل
وليس ينبغي أن يحمل على قول من وقف على الهاء كما قال:
يا بيذره، يا بيذره، يا بيذره
وكما قال الآخر:
يا رب أباز من العصم صدع ... تقبض الظل عليه فاجتمع
لما رأى ألا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطأة حقف فاضطجع
لأن هذأ حسن فيه إظهار الهاء، إذ كان الكلام تاماً يحسن عليه السكوت، وقوله: محدثه ملك، مضاف ومضاف إليه، فلا يحسن فيه مثل ذلك، إذ كان الاسمان كاسم واحد.









مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید