المنشورات

أبي الهذيل العلاف

ويحكى عن أبي الهذيل العلاَّف أنّه كان يمرُّ في الأسواق على حمارٍ ويقول: يا قوم احذروا توبة غلامي. وكان له غلامٌ يعد نفسه التّوبة، فسقطت عليه آجرةٌ فقتلته، والدّنيا الغرَّارة ختلته.
وأوّل ما سمعت بأخبار الشّيخ، أدام الله تأثيل لفضل ببقائه، من رجلٍ واسطيٍّ يتعرّض لعلم العروض، ذكر أنّه شاهده بنصيبين، وفيها رجلٌ يعرف بأبي الحسين البصري، معلماً لبعض العلويّة، وكان غلامٌ يختلف إليه يعرف بابن الدن، وقد اجتاز الشّيخ ببلدنا والواسطيُّ يومئذٍ فيه. وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السّلام بن الحسين المعروف بالواجكا رحمه الله، فلقد كان من أحرار النّاس كتباً عليها سماعٌ لرجلٍ من أهل حلب، وما أشكُّ أنّه الشّيخ، أيّد الله شخصه بالتّوفيق، وهو أشهر من الأبلق العقوق، لا يفتقر إلى تعريف بالقريض، بل يصدح شرفه بغير التّعريض. قال البكريُّ النَّسابة لرؤبة: من أنت؟ قال: أنا ابن العجَّاج. قال: قصَّرت وعرَّفت. وإنّما هو في الاشتهار، كما سطع من ضوء نهارٍ، وكما قال الطائيُّ:
تحميه لألاؤه أو لو ذعيتَّه، ... من أن يذال بمن أو ممَّن الرّجل؟
وإن تناسخت الأمم في العصور، فهو عليُّ بن منصور الذي مدحه الجعفيُّ، فقال والخالق وفيّ:
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا، فسمّوه عليَّ الحاجبا
حجب طلاب الأدب عن تلك الرّتبة، ونزل بالمشّامخة لا العتبة. وأمّا العلماء الذين لقيهم، فأولئك مصابيح النّاجية وكواكب الدّاجية، وإنَّ في النّظر إليهم لشرفاً، فكيف بمن اغترف من كلِّ بحرٍ وجد غرفاً؟ وإنّما أقول ذلك على الاقتصار، ولعلَّه قد نزف بحارهم بالقلم والفهم، وفتحوا له أغلاق البهم جمع بهمةٍ وهو الأمر الذي لا يهتدى له فأخذ عن الكتابيّ سور التنّزيل، وفاز بثواب جزيل، فكأنما لقنّه إيّاه الرّسول، وبدون تلك الدّرجة يبلغ السُّول. أو أخذها عن جبرئيل، فى غير ولا تبديل. وسهّلوا له ما صعب من جبال العربيّة، فصارت حزونة كتاب سيبويه عنده كالدِّمات، وغني في اللُّجج عن ركوب الأرماث.
وأمّا انحيازه إلى أبي الحسن، رحمه الله، فقد كان ذلك الرّجل سيَّداً، ولمن ضعف من أهل الأدب مؤيَّداً، ولمن قوي منهم وادّاً، ودونه لللنوب محاداً، وكان كما قال القائل:
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام
وكما قال الطّائيّ:
كلُّ شعبٍ كنتم به آل وهب ... فهو عبي وشعب كل أديب
والمثل السّائر: على أهلها تجني براقش. وذكر الصُّوليّ أنّه دخل على المتَّقي بعدما قتل بنو حمدان محمّد بن رائق، فسأله عن أبيات نهشل بن حرِّيّ:
ومولىّ عصاني واستبدَّ برأيه ... كما لم يطع بالبفتين قصير
فلما رأى ما غب أمري وأمره ... وناءت بأعجاز الأمور صدور
تمنَّى نئيشاً أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
يقال: فعل كذا نئيشاً، أي بعدما فات، قال الشاعر:
إنّك يا قطين ولت منهم ... لألأم مالك عقباً وريشاً
تناءت منكم عدس بن زيدٍ ... فلم تعرفكم إلا نئيشاً
وما زال الشّبان المحسون من أنفسهم بالنهضة، يبغون ما شرف من المراهص، وكيف بالسّلامة من الواهص؟ والمثل السّائر: رأي الشّيخ خير من مشهد الغلام. ورمّا سار الطّالب سورّة، فواجهت من القدر زورةّ، إنّ الغفة من العيش، لتغني المجتهد عن البري والرّيش، ولكن لا موئل من القضاء المحتوم، وآهٍ من عمرٍ بالتّلف مختوم:
وسورة علمٍ لن تسَّدد، فأصبحت ... وما يتمارى أنّها سورة الجهل
وأمّا حججه الخمس فهو، إن شاء الله، يستغني في المحشر بالأولى منهن، وينظر في المتأخرين من أهل العلم، فلا ريب أنّه يجد فيهم من لم يحجج، فيتصدّق عليهم بالأربع.
وكأنّي به وعماعم الحجيج، يرفعون التّلبية بالعجيج، وهو يفكر في تلبيات العرب وأنّها جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطورٍ.
فالمسجوع كقولهم:
ليبك ربنّا لَّبيك، ... والخير كله بيديك
والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرَّجز، والأخر من المنسرح، فالذي من الرَّجز كقولهم:
لبيك إن الحمد لك، ... والملك لا شريك لك
إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك
أبو بناتٍ بفدك فهذه من تلبيات الجاهليّة، وفداك يومئذ فيها أصنام، وكقولهم.
لبيك يا معطي الأمر، ... لبيّك عن بني النّمر
جئناك في العام الزَّمر ... نأمل غيثاً ينهمر
يطرق بالسيّل الخمر.
والذي من المنسوج جنسان: أحدهما في آخره ساكنان، كقولهم:
لبيك ربَّ همدان، ... من شاحطٍ ومن دان
جئناك نبغي الإحسان ... بكلّ حرفٍ مذعان
نطوي إليك الغيطان: ... نأمل فضل الفغران
والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن بجيلة ... الفخمة الرّجيلة
ونعمت القبيلة ... جاءتك بالوسيله
نؤّمل الفضيله وربّما جاؤوا به على قوافٍ مختلفة، كما رورا في تلبية بكر بن وائل:
لبيك حقاً حقاً ... تعبّداً ورقاً
جئناك النَّصاحه ... لم نأت للرَّقاحه
والمشطور جنسان: أحدهما عند الخليل من الرّجز، كما روي في تلبية تميم:
لبيك لولا أنّ بكراً دونكا ... يشكرك الناس ويكفرونكا
ما زال منّا عثج يأتونكا والآخر من السريع وهو نوعان: أحدهما يلتقي فيه ساكنان كما يروون في تلبية همدان:
لبيك مع كل قبيلٍ لبوك ... همدان أبناء الملوك تدعوك
قد تركوا أصنامهم وأنتابوك، ... فاسمع دعاءً في جميع الأملوك
قوهم: لبَوك، أي لزموا أمرك، ومن روى: لبَّوك، فهو سناد مكروه.
والمشطور الذي لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن سعدٍ وعن بنيها ... وعن نساءٍ خلفها تعنيها
سارت إلى الرّحمة تجتنيها والموزون من التلبية يجب أن يكون كلهّ من الرجز عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعّلهم قد لبّوا به ولم تنقله الرّواة.
وكأني به لمّا اعتزم على استلام الرّكن، وقد ذكر البيتين اللذّين ذكرهما المفجع في حدَّ الإعراب:
لو كان حياّ قبلهن ظعائناً، ... حيَّا الحطيم وجوهنَّ وزمزم
لكنَّه عمّا يطيف بركنه ... منهنَّ صمّاء الصدى مستعجم
فيعجب من خروجه من المذكَّر إلى المؤنث. وإذا حمل هذا على إقامة الصفّة مقام الموصوف لم يبعد.
وكذلك يذكر قول الآخر:
ذكرتك والحجيج له عجيجٌ ... بمكثة والقلوب لها وجيب
فقلت ونحن في بلدٍ حرامٍ ... به لله أخلصت القلوب
أتوب إليك يا ربّاه ممّا ... جنيت فقد تظاهرت الذّنوب
فأمّا من هوى ليلى وحبِّي ... زيارتها، فإنِّي لا أتوب
فيقول: أليس قال البصريون إنَّ هاء النُّدبة لا تثبت في الوصل والهاء في قوله: يا ربَّاه، مثل تلك الهاء ليس بينهما فرقٌ؟ ولكن يجوز أن يكون مغزاهم في ذلك المنثور من الكلام، إذ كان المنظوم يحتمل أشياء لا يحتملها سواه.
ولعلّه قد ذكر هذه الأبيات في الطَّواف:
أطوِّف بالبيت فيمن يطوِّف، ... وأرفع من مئزري المسبل
وأسجد باللّيل حتى الصّباح، ... وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخِّر لي ربَّة المحمل
فقال: ما أيسر لفظ هذه الأبيات لولا أنّه حذف أن من خبر عسى! فسبحان الله، لا تعدم الحسناء ذاماً، وأيُّ الرّجال المهذَّب.
وذكر عند النَّفر وتفرُّق الناس هذين البيتين:
ودّعي القلب يا قريب وجودي ... لمحبٍّ فراقه قد أحمّا
ليس بين الحياة والموت إلاَّ ... أن يرّدوا جمالهم فتزمّا
وقول قيس بن الخطيم:
ديار التي كادت ونحن على منى ... تحلُّ بنا، لولا نجاء الرّكائب
ولم أرها إلاَّ ثلاثاً على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجب ٌ منها، وضنَّت بحاجب
وميّز بين هذين الوجهين في قوله: تحلُّ بنا، لأنََّه يحتمل أن يكون: تحلّ فينا، وقد يجوز أن يريد: تحلنا، كما يقال: انزل بنا هاهنا، أي أنزلنا، ومنه قوله:
كما زلَّت الصّفواء بالمتنزل
وإن كانت الحجج التي أتى بهامع مجاورةٍ، فقد أقام بمكّة حتى صار أعلم بها من ابن داية بوكره، والكدريِّ بأفاحيصه، والحرباء بتنضبته.
وإن كان سافر إلى اليمن أو غيره، وجعل يحجُّها في كلّ سنة، فذلك أعظم درجة في الثّواب، وأجدر بالوصول إلى محلِّ الآوَّاب. ولعلّه قد وقف بالمغمِّس وترحَّم على طفيلٍ الغنوي لقوله:
هل حبل شماء بعد الهجر موصول ... أم أنت عنها بعيد الدّار مشغول؟
إن هي أحوى من الرِّبعي، حاجبه، ... والعين بالإثمد الحاري مكحول
ترعى أسرة مولّيٍ أطاع لها ... بالجزع، حيث عصى أصحابه الفيل
وإنّما أطلقت التّرحُّم على طفيلٍ إذ كان بعض الرّواة يزعم أنَّه أدرك الإسلام، وروى له مدحٌ في النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم أسمعه في ديوانه، وهو:
وأبيك خيرٍ إنَّ إبل محمّدٍ ... عزلٌ تماوح أن تهبَّ شمال
وإذا رأين لدى الفناء غريبةً ... فاضت لهنَّ من الدّموع سجال
وترى لها حدَّ الشّتاء على الثّرى ... رخماً، وما تحيا لهنّ فصال
وأنشد أبيات ابن أبي الصّلت الثّقفي:
إن آيات ربنا ظاهراتٌ ... ما تمارى فيهنّ إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمَّس حتى ... ظلَّ يحبو، كأنَّه معقور
كلُّ دين يوم القيامة عند الله ... إلاَّ دين الحنفية بور
وما عدم أن تخطر له أبيات نفيلٍ:
ألا حييت عنّا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت، فلا تريه، ... لدى جنب المغمِّس ما رأينا
إذا لعذرتني ورضيت أمري، ... ولم تأسي على مافات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيراً ... وحصب حجارةً تلقى علينا
وكلُّ القوم يسل عن نفيلٍ ... كأنَّ عليَّ للحبشان دينا!
وليت شعري أقارناً أهلّ أم مفرداً؟ وأرجو أن لا تكون لقيته بمكَّة شهلةٌ تعرض عليه فتيا ابن عبّاسٍ، حلف ما بها من باسٍ، فتذكَّر قول القائل:
قالت، وقد طفت سبعاً حول كعبتها:
هل لك يا شيخ في فتيا ابن عبّاس؟
هل لك في رخصة الأطراف ناعمةٍ
تمسي ضجيعك حتى مصدر النّاس فأمّا المنتسبون إلى جوهرٍ، فالجوهر بعد إدراك الحظِّ، يرجع إلى تغيير وتشظٍّ، كم درّةٍ في تاج ملك، لمّا رمي بالمهلك، فضتَّها من الأسف حظاياه، وهل تثني من الأجل سراياه؟ وأخرى على نحر كعاب، شطَّت عن الدَّنس والعاب، منيت بالنقابة أو النُّحاز، فجعلتها الوالدة في منحاز.
وكأنّي به وقد مرَّّ بأنطاكية فذكر قول امرىء القيس:
علون بأنطاكيَّةٍ فوق عقمةٍ، ... كجرمة نحلٍ أو كجنّة يثرب
وخطر له أن النّطك وهو اللّفظ الذي يجب أن يشتق منه أنطاكية لو كانت عربيّةً، مهملٌ لم يحكه مشهورٌ من الثِّقات. ولمّا مرَّ بملطية أنكر وزنها وقال: فعلية، مثالٌ لم يذكر، وإذا حملناها على التّصريف وجب أن تكون ياؤها زائدةً لأن قبلها ثلاثةً من الأصول.
وأمّا صديقه الذي جدب عند السَّبر، فهو يعرف المثل: أعرض عن ذي قبر، إذا حجز دون الشّخص ترابٌ، فقد تقضَّت الآراب، من ليم في حال حياته، استحقَّ المعذرة في مماته، ولعله نطق بما نطق في معنى انبساطٍ، لا وهو بالكلم ساطٍ، ومن غفر ذنب حيٍّ وهو يلحق به الأذاة، فكيف لا يغفر له بعد الميتة وقد عدم منه الشَّذاة؟ وسلامٌ على رمسٍ من مخالسٍ، يعدل بألف تسليمةٍ في المجالس، وهو يعرف ما قالوه في معنى البيت:
وآتي صاحبي حيث ودَّعا
أي أزور قبره.
وأمّا الذي أنكره من البديه، فمولاي الشّيخ مكرَّرٌ في الأدب تكرير الحسن والحسين في آل هاشم، والوشم المرجَّع بكفِّ الواشم، وهل يعجب لسعجةٍ من قمريّ، أو قطرةٍ تسبق من السّحاب المريّ؟ ولو باده خزامى عالجٍ بالرائحة لجاز أن يرعف غضيضها، أو البروق الوامضة لما امتنع أن يعجل وميضها. وفي النّاس من يكون طبعه المماظَّة، فيؤذي الجليس، ويكثر التّدليس وهو يعلم أنّه فاضل، لا ينضله في الرّمي مناضل.
والبديه ينقسم أفانين، ويصرّف للنّفر أظانين. فمنه القبل، ولعلّه فيه أجرى من سبل، أو هو السَّبل. والمراد بسبل الفرس الأنثى المعروفة، والسَّبل: المطر.
وبديه التّمليط، ولا تجود الرّاسية بالسَّليط.
وبديه الإعنات، وذلك الموقظ من السِّنات، وهو يختلف كاختلاف الأشكال، ولا ينهض به ذو الوكال.
وأمّا أبو عبد الله بن خالويه وإحضاره للبحث النُّسخ، فإنّه ما عجز ولا أفسخ أي نسي ولكن الحازم يريد استظهاراً، ويزيد على الشّهادة الثانية ظهاراً:
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ، ... نكدن، ولا أميَّة في البلاد
أين كأبي عبد الله؟ لقد عدمه الشّام! فكان كمكَّة إذ فقد هشام، عنيت هشام بن المغيرة، لأنَّ الشاعر رثاه فقال:
أصبح بطن مكَّة مقشعرّاً ... كأنَّ الأرض ليس بها هشام
يظلُّ كأنّه أثناء سوطٍ ... وفوق جفانه شحمٌ ركام
فللكبراء أكلٌ كيف شاءوا ... وللصُّغراء حملٌ واقتثام
وأبو الطيب اللّغوي اسمه عبد الواحد بن عليٍّ، له كتابٌ في الإتباع صغير على حروف المعجم في أيدي البغداديين، وله كتابٌ يعرف بكتاب الإبدال، قد نحا به نحو كتاب يعقوب في القلب، وكتابٌ يعرف بشجر الدرِّ، سلك به مسلك أبي عمر في المداخل، وكتابٌ في الفرق قد أكثر فيه وأسهب. ولا شكَّ أنَّه قد ضاع كثيرٌ من كتبه وتصنيفاته، لأنّ الرّوم قتلوه وأباه في فتح حلب. وكان ابن خلويه يلقبِّه قرموطة الكبرثل، يريد دحروجة الجمل، لأنّه كان قصيراً.
وحدّثني الثقه أنّه كان في مجلس أبي عبد الله بن خالويه وقد جاءه رسول سيف الدّولة يأمره بالحضور ويقول له: قد جاء رجلٌ لغويُّ، يعني أبا الطّيب هذا، قال المحدِّث: فقمت من عنده ومضيت إلىالمتنبي فحكيت له الحكاية، فقال: السّاعة يسلء الرّجل عن شوط براحٍ، والعلَّوض، ونحو ذلك، يعني أنّه يعنته.
وكان أبو الطيب اللّغوي بينه وبين أبي العبّاس بن كاتب البكتمريّ مودّةٌ ومؤانسةٌ، وله يقول:
يا عبد إنّك عند القلب جنتَّه ... حبّاً، وإّنَك عند الطَّرف ناظره
أزمعت سيراً، فقل ما أنت قائله ... واذكر لراعي الهوى، ما أنت ذاكره
لا أشتكي سهراً طالت مسافته ... اللّيل يعلم أنّي الدّهر ساهره
قوله: يا عبد، يريد: يا عبد الواحد، كما قال عديُّ بن زيد في الأبيات الصادية التي مضت:
غيبَّت عنّ؟ ي عبد في ساعه الشَّرّ ... وجنِّبت أوان العويص
يريد عبد هندٍ.
وقد كان أبو الطيب يتعاطى شيئاً من النَّظم.
وقد علم الله أنّي لا في العير ولا في النّفير، ومن للجارمة بالتّكفير؟ كلَّما رغبت في الخمول، قدِّر لي غير المأمول، كان حقُّ الشّيخ إذ أقام في معرَّة النّعمان سنةً ان لا يسمع لي بذكرٍ، ولا أخطر له على فكر، والآن فقد غمر إفضاله، وأظلَّني دوح أدبه لا ضاله، وجاءتني منه فرائد لو تمثِّلت لواحدة منها تومةً، لم تكن بالصحف مكتومةً، ولاستغنى بثمنها القبيل، وعمر إليها السّبيل؛ ينظر منها النّاظر لى جوهرةٍ، مثل الزّهرة، كما قال الرّاجز:
ذهب لمّا أن رآها تزمره ... وقال: يا قوم، رأيت منكرة
شذرة واد إذ رأيت الزُّهرة وبعضهم يروي: ترمله، مكان: تزمره، وهي أكثر الرّوايتين على ما فيها من الإكفاء.
وهو، أدام الله عزَّ الأدب بحياته، كريم الطّبع والكريم يخدع، ومن سمع جاز أن يخال، والجندل لا ينتج الرِّخال.
وأمَّا ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللّذات، فهو يعرف الحديث: أريحوا القلوب تع الذِّكر. وقال أحيحة بن الجلاح:
صحوت عن الصِّبا واللهو غول ... ونفس المرء آونة ملول
وكان ينبغي أن يكون في هذا الوقت يضبط ما معه من الأدب بدرس من يدرس عليه، إذ كانت السِّنُّ لابدَّ لها من تأثير، وأن ترمي بقلَّةٍ كلَّ كثيرٍ، ولكنَّ قطرته الفاردة تغرَّق، ونفسه إذا برد يحرِّق، وقال رجلٌ من قريش:
لله درّي حين أدركني البلى ... على أيِّما تأتي الحوادث أندم؟؟؟؟!
ألم أجتل البيضاء يبرق حجلها ... لها بشرٌ صافٍ ووجهٌ مقسَّم؟
ولم أصطبح قبل العواذل شربةً ... مشعشعةً، كأنَّ عاتقها الدّم
ولعلّه قد قضى الأرب من ذلك كلَّه، والأشياء لها أواخر، وإنَّما العاجلة سرابٌ ساخر، وقد عاشر ملوكاً ووزراء، فلا منقصة ولا إزراء، وقد سمع نبأ النّعمان الأكبر، إذ فارق ملكه فراق المعبر، وتعوَّض من الحرير المسوح، ورغب في أن يسوح، وإيّاه عنى العباديُّ في قوله:
وتذكَّر ربَّ الخورنق إذ فكَّ ... ر يوماً وللهدى تفكير
سرَّه ملكه وثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسّدير
فارعوى جهله فقال: وما غب ... طة حيٍّ إلى الممات يصير؟
والسُّكر محرَّمٌ في كلِّ الملل، ويقال: إنّ الهند لا يملِّكون عليهم رجلاً يشرب مسكراً، لأنّهم يرونه منكراً، ويقولون: يجوز أن يحدث في المملكة نبأٌ الملك سكران، فإذا الملك المتبع هكران.
لعنت القهوة، فكم تهبط بها رهوةٌ؛ لا خيرة في الخمر، توطىء على مثل الجمر. من اصطبح فيهجاً، فقد سلك إلى الدّهية منهجاً. من اغتبق أمَّ ليلى، فقد سحب في الباطل ذيلاً. من غري بأمَّ زنبق، فقد سمح بالعقل الموبق. من حمل بالرّاحة راحاً، فقد أسرع للرّشد سراحاً. من رضي بصحبة العقار فقد خلع ثوب الوقار. من أدمن قرقفاً، فليس على الواضحة موقفاً. من سدك بالخرطوم، رجع إلى حال المفطوم. المواظبة على العانِّي، تمنع بلوغ الأماني. الخيبة لسبيئةٍ، تخرج من سرٍّ كلَّ خبيئةٍ. لا فائدة في الكميت، جعل حيَّها مثل الميت. من بلي بالصَّرخديّ، لم يكن من الفاضحة بالمفديّ. ما أخون عهود السُّلاف، تنفض مرير الأحلاف. أمّا السُّلافة، فسلٌّ وآفة. كم شابٍّ في بني كلابٍ، مات غبطةً، وما بلغ من الدّنيا غبطة؟! رماه بسحافٍ قاتلٍ، إدمان المعتقَّة ذات المخاتل. من بكر إلى الشَّمول، فرأيه ينظر بطرف مسمول. أقلُّ عنتاً من كرينة، ليثٌ زأر في العرينة. كم بربطٍ، عصف بجعد وسبط! كم مزهرٍ، أوقع هاجداً في السَّهر! وهو يعرف أبيات المتنخِّل:
ممّا أقضِّي ومحار الفتى ... للضبع والشيبة والمقتل
إن يمس نشوان بمصروفةٍ ... منها بنيءٍ، وعلى مرجل
لا تقه الموت وقيّاته ... خطَّ له ذلك في المحبل
وينبغي أن يزِّهده في الصّهباء الصّافية، أن نداماه الأكرمين أصبحوا في الأجداث العافية، كم جلس مع فتيانٍ، أتى عليهم الزّمن كلَّ الإتيان، فكان كما قال الجعديُّ:
تذكّرت والذّكرى تهيج لي الهوى
ومن حاجة المحزون أن يتذكّرا
نداماي عند المنذر بن محرِّقٍ
فأصبح منهم ظاهر الأرض مقفرا وهو يعرف الأبيات التي أوّلها:
خليليَّ هبَّا طال ما قد رقدتما، ... أجدّكما لا تقضيان كراكما؟
وهل يعجز أن يكون كما قال الآخر:
أمّا الطّلاء فإنّى لست ذائقها ... حتى ألاقي بعد الموت جبَّارا
كأنّه كان نديمه على الطِّلاء، فلمّا رماه التّلف من غير بلاء، حرَّم عليه شربها، حتى تسكنه الرّاكدة تربها.
وسرَّتني فيئة الدّنانير إليه، فتلك أعوانٌ، تشتبه منها الألوان، ولها على النّاس حقوقٌ، تبرُّ إن خيف عقوق.
قال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت في النّوم أن القيامة قد قامت وجيء بك وقد ألجمك العرق. فقال معاوية: هل رأيت ثمَّ من دنانير مصر شيئاً؟ وهذه لا ريب من دنانير مضر لم تجيء من عند السُّوق، ولكن من عند الملوك، ولم تكن مهر هلوك، فالحمد لله الذي سلَّمها إلى هذا الوقت ولم تكن كذهبٍ مخزونٍ،صار إلى الخمّارة مع الموزون، كما قال:
وخمَّارةٍ من بناتٍ المجوس ... ترى الزِّقَّ في بيتها شائلا
وزنَّا لها ذهباً جامداً، ... فكالت لنا ذهباً سائلا
ولا ألغز عنها هذا البيت:
دنانيرنا من قرن ثورٍ، ولم تكن ... من الذهب المضروب بين الصّفائح
لو رآها المرقِّش لعلم أنّها أحسن من وجوه حبائبه، لمَّا غدا الظّاعن بربائبه، فقال:
النَّشر مسكٌ، والوجوه دنا ... نيرٌ، وأطراف الأكفِّ عنم
وإنها لأحسن من الوجوه التي ذكرها الجعدي، وزعم أن حسنها بديّ، فقال:
في فتوٍ شمّ العرانين أمثا ... ل الدّنانير شفن بالمثقال
أخذت من جوائز كرامٍ صيدٍ، تارةً بالخدمة وتارة بالقصيد، ولم تكن في العيدية مرهناتٍ، ولا عند الغرض موهناتٍ، كما قال ردَّادٌ الكلابيُّ:
يطوي ابن سلمى بها عن راكبٍ بعراً ... عيديَّة، أرهنت فيها الدّنانير
وهي عند البله والكيس، أجود من الخاتم الذي ذكره ابن فيسٍ، فقال:
إن ختمت جاز طين خاتمها، ... كما تجوز العبديّة العتق
أراد بالعبدية دنانير نسبها إلى عبد الملك بن مروان، ويقال إنّه أول من ضرب الدّنانير في الإسلام.
وجلتّ عن نقد الصّيرفي، وهي الرّواجح لدى الميزان الوفّي، حاش الله أن تكون كما قال الفرزدق:
تنفى يداها الحصى في كلّ هاجرةٍ ... نفي الدّنانير تنقاد الصّياريف
وهذا البيت ينشد على وجهين: الدّنانير والدّارهيم.
ولا هي من دنانير أيلة، باع بها البائع نخيله، وإنمّا ذكروا دنانير أيلة لأنهّا كانت في حيّز الرّوم فتأتيها الدَّنانر من الشام، قال:
وما هبرزي من دنانير أيلةٍ ... بايدي الوشاة مشرقاً يتأكَّل
الوشاة: النقاشون الذين يشونه ولو رآها الضبيّ محرزٌ، لشهد أنهّا حين تبرز، أجلُّ من تلك القسمات وإن كانت في أوجه ذي سماتٍ، قال:
كأن دنانيراً عى قسماتهم، ... وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء
ومعاذ الله أن نقرن بحوذان وادٍ، سقته روائح وغوادٍ، حتى إذا القيظ وهج، تمزّق ما لبس وانهج، قال الشاعر:
وربَّ وادٍ سقاه كوكب أمر ... فيه الأوابد والأدم اليعافير
هبطته غادياً والشّمس شارقة ... كأن حوذانه فيه الدّنانير
ولو أخذ مثلها النّادم على بيع كميته، لأسكنت البهجة في خلده وبيته، ولم يأسف أن عوض حماراً من فرس، ولوجد على الشّكوى ذا خرسٍ، ولم يقل:
ندمت على بيع الكميت، وأنمّا ... حياة الفتى هم له وخسار
وامّا أتاني بالدنّانير سائمي، ... أصاخت وهشت للبياع نوار
وقالت: أتم البيع واشتر غيره، ... فحولك في المشتى بنون صغار
فأنفقت فيهم ما أخذت، ولم يزل ... لدي شراب راهن وقتار
إلى أن تداعى الجند بالغزو وانجلت ... غوم شتاء سحبهن غزا
وأعوزني مهر يكون مكانه ... كأن ليس ين العالمين مهار
وسار على الخل المغذَّة صحبتي ... وسرت وتحتي للشقاء حمار
ولله المنّة كما نجّاها بالقدر من بكورٍ، ليس من بكره بالمشكور، يحمل معه دنانير، ولا يصحب من القوم صنانير، أي بخلاء فيقيم بهم في الدَّسكرة أيامّاً، أيقاظاً في السكر أو نياماً، فتفني الذَّهب أقداح، كأنّها جزور الميسر وهي القداح قال الجعدي:
ود سكرةٍ صوت أبوابها ... كصوت المواتح في الحوأب
سبقت إليها صياح الدّيوك ... وصوت نواقي لم تضرب
وقال آخر:
وقبضةٍ من دنانير غدوت بها ... للدّسكري وحولي فتية مح
ولم يزل ثمّ يسقينا ويأخذها ... حتى استقلَّ بما في الصّرَّة القدح
ولو كان الشيخ أدرك من تقدم من الملوك، لكن كلّ واخد منها كالذي قال فيه القائل
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحداً، ... إذا ناله معشرٌ أيسروا
ودنانيره، بإذن الله، مقدَّسات، ما هنَّ بالحرج ملدسات
والحزامة من سومه وشيمه، فلا يدفع إلى مقارض شيئاً من عيمه أي مختاراته وفي الكتاب العزيز: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدَّه إليك " وهذا قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد كان في زمانه من تخرج، يتضمخ بالنسك ويتأرخ، فأما اليوم فلو أمن كتابي على نميٍَّ، لأسرعت إليه الظنَّن إسراع رميّ والرَّمي ههنا سحاب
سريع الإقشاع، من قول الهذلي:
أولئك ودعوت أتاك منهم ... رجال مثل أرمية الحميم
وما عنيت بالكتابي، من نسب إلى توارةٍ وإنجيل، دون من نسب إلى القرآن البجيل.
على أنّه لا بدّ من أمانةٍ مفترقة في البلاد، تكون للخيّر من التّلاد، وإنّها في الآخرة لأشرف، وأرحض لما يقترف، فليشفق على الصّبابة، إشفاق الندَّس ذي اللَّبابة، فكل واحدٍ منها دينار أعزةٍ، يبعث الرّابي على الهزّة، كما قال سحيم:
تريك غداة البين كفاً ومعصماً ... ووجهاّ كدينار الأعزَّة صافيا
ولو نظر إليه قيس بن الخطيم لما شبّه به وجه كنوده، وجعله من أنصر جنوده، ولم يسمح أن يقول:
صرمت اليوم حبلك من كنودا ... لتبدل وصلها وصلاً جديدا
عشيَّة طالعت فأرتك قصراً ... محاسن فخمة منها وجيدا
ووجهاً خلته لمّا بدا لي ... غداة البين ديناراً نقيدا
ولمثله قصد ربيعة بن المكدَّم، لمّا أيقن بحتفٍ مقدَّم، فقال:
شديّ علىَّ العصب أنَّ سيّار ... فقد رزيت فارساً كالدّينار
أو ملكه مالك بن دينار مع زهده، وبلوغه في الورع أقصى جهده، لجاز أن يحجأ به على دينار أبيه، وقد يكذب قائل في التشبيه.
وكلّ هبرزيٍ من هذه الصُّفر المباركة، أبلغ في قضاء الحاجة من دينارٍ الذي اختاره للمأربة قائل هذا البيت:
هل أنت باعث دينارٍ لحاجتنا ... أو عبد ربٍ أخا عون بن مخراق
وهذا البيت يتداوله النحويوّن، وزعم بعض المتأخرين من أهل العلم أنّه مصنوع، وما أجدره بذلك! فأمّا قول
















مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید