المنشورات

الفرزدق:

رأيت ابن دينارٍ يزيد رمى به ... إلى الشام يوم العنز، والله قاتله
لو كان دينار هذا المذكور كأحد هذه الدّنانير، لأرب به أن ينسب إليه يزيد.
وأين هي من دنانير النّخَّة التي قال في واحدها القائل:
عميّ الذي منع الدّينار ضاحيّةّ، ... دينار نخَّة جرمٍ وهو مشهود
ودينار النَّخَّة دينار كان يأخذه المصدَّق إذا فرغ من الجباية.
وكل نقيشٍ من هذه الرّاجعة بعد اليأس، أنقع لغليل الصَّديان، من دينار الذي دعاه لسقيه راكب فلاةٍ، وهو على كور علاةٍ فقال:
أقول لدينارٍ وهنَ شوائل، ... بنا كنعامٍ طالبات رئال
لكّ الويل أدركني بشربة آجن ... من الماء، ما مشروبها بزلال
فما كاد دينار يغيث بنطفة ... حشاشة نفسٍ آذنت بزوال
ولا هو كدينار الأخطل الذي ذكره في قوله:؟ كمت ثلاثة أحوال بطينتها حتى اشتراها عبادي بدينار
لو وقع إلى عبادي لما مذل ... به لخمَّار، ولو حسب في الضمَّار
ولا كالدّينار في البيت الذي أنشده أبو عمرو الزّاهد:
وفي الكتاب أسطر محكوكه، ... لا حظَّ في الدّينار للكاروكه
زعم أن الكاروكة القوادة.
والعجب لها تفر من بنان السّارق، فرار دنانير الشَّارق، وصفها أبو الطيب فقال:
وألقى الشّرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
لو رآها كثيرَّ عزة لآلى أوكد أليةٍ، أنّها أحسن من الهرقليَّة، التي شبه بمنفردها نفسه فقال:
يروق عيون النّاظرين كأنّه ... هرقلي وزنٍ، أحمر التبّر، راجح
وإن كانت زائدة على الثمانين، ... فقد أوفت على عدَّة أصحاب
موسى الذين جاء فيهم: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " وعلى عدّة الاستغفار المذكور في قوله: " إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم "، وعلى عدّة أذرع السّلسلة في قوله تعالى: " في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ".
ولو كان الإنسان في قليب عمقه ثمانون قامةً، جاز أن تستنقذه هذه المصفرَّة من غير مرضٍ، والزّائلة بما يعترض من الجرض وإنّما ذكرت ذلك لقول الأعشى:
ولو كنت في جبٍ ثمانين قامةً ... ورقيِّت أسباب السّماء بسَّلم
ولو كانت سنو زهير مثلها لما وصف نفه بالسآمة، ولكانت له أنهض قامة والقامة الأعوان، كأنّها جمع قائم. قال الرّاجز:
وقامني ربيعة بن كعب ... حسبك ما عندهم وحسبي
ولو أدركه عروة بن حزام وهو يقول:
يكلفّني عمّي ثمانين ناقة ... وما لي يا عفراء غير ثمان
لجاز أن يرقّ له فيغيثه من هذه الثّمانين ببعضها أو يسمح له بكلّها، لأنّه كريم طبع، وعوده في النُّوب عود نبعٍ؛ ولو صارت في يد عروة هذه الثمانون، لبلغ بها الأمنية لأنّ النّاقة في ذلك الزّمان كانت ربّما اشتريت بعشرةٍ دراهم.
الفرزدق
وفي بعض أخبار الفرزدق، أنّ رجلاً من ملوك بني أمية أعطاه مائة من إيل الصّدقة، فباعها بألفٍ وخمسمائة درهم، بعدما عني به، وزيد في الثمن. وقد مرّت به الحكاية التي يذكرها أصحاب التاريخ، أن الجمل كان يباع في زمن أبي جعفر المنصور بدرهمٍ، وأنّه صادر قوماً من أصحابه، وكانت لهم نعج، فباعوها ثماني نعاجٍ بدرهم. هذا ممّا وجد بخط المرزبانيّ في تاريخ ابن شجرة. وهي أنصر من الثمّانين التي ذكرها العلوي البصري في قوله:
عبرت إليهم في ثمانين فارساً، ... فأدركت منهم بغيتي ومراديا
ولولا خشية الغلوِّ لقلت: ومن ثمانين ألفاً ذكرها السِّنبسيُّ في قوله:
ثمانون ألفاً، ولم أحصهم، ... وقد بلغت رجمها أو تزيد
وكيف لهمَّام بن غالبٍ أن ترميه الحوادث بهذه الثمانين، كما رمته بسنيه في قوله:
رمتني بالثِّمانين اللّيالي، ... وسهم الدّهر أقتل سهم رام
ولو ملكها راعي ثمانين الذي يقال فيه، أحمق من أعي ضأنٍ ثمانين، لجعلت له عقلاً صافياً، وثوباً من الدّّعة ضافياً.
والمثل السّائر: وجدان الدّعة والرَّقين، يذهب أفن أفين، ويروى: يغطِّي أفن ألأفين. وليس للرِّقة، شرف هذه الأشكال المشرقة، وللذهب على الفضَّة صرف، والمكارم لها عرف.
وهو يعرف حكاية الحطيئة مع سعيد بن العاص لمَّا قال له: أيُّ النّاس أشعر؟ قال: الذي يقول، وهو أبو دؤادٍ الإياديُّ:
لا أعدُّ الإقتار عدماً ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
قال: ثمّ من؟ قال: الذي يقول وهو حسان بن ثابت:
ربَّ علمٍ أضاعه الما ... ل وجهلٍ غطِّى عليه النّعيم
قال: ثمّ: قال: الذي يقول وهو أعشى قيس:
بيضاء ضحوتها وصف ... راء العشيّة كالعراره
قال: ثمّ من؟ قال: ثمّ حسبك بي إذا وضعت رجلاً على رجل، ثم عويت في آثار القوافي، كما يعوي الفصيل في آثار الإبل.
وقال الشاعر:
وجدت بني الجعراء قوماً أذلَّةً ... ومن لا يهنهم يمس وغداً مهضَّما
وأحمق من راعي ثمانين ترتعي ... يجنب السَّتار بقل روضٍ موسَّما
وتلك الثمانون، ألقي فيها الرَّيع إلى أن يصير قيراطها قنطاراً، ولا فتئ كلُّها معطاراً أي هو قريب من عطر، لا يعدم في صيامٍ ولا فطر، أوفر حظَّاً في المحمدة من التي ذكرها الحرَّاني السّلمي، أبو المحلمَّ عوف بن المحلم في قوله:
إنَّ الثّمانين، وبلِّغتها، ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدَّلتني بالشَّطاط الخنا ... وكنت كالصَّعدة تحت السَّنان
لأن التي ذكرها تضعف، وهذه تنعش وتسعف، وتلك تجعل الرّجل بعد كونه كالقناة، كأنّه قوس في أيدي الحناة، وهذه تقيم الأود، وتسر الأسود. والبيت المنسوب إلى أبي العتريف معروف:
حبشي له ثمانون عيباً ... كسبته مهابة وجالا
ولعّله قد اجتاز في أرض الموصل، بالقرية التي تعرف بثمانين وهي قريبة من الجبل المعروف بالجوديِّ، فإن كانت ثمانون القرية وطن أناسٍ، فهذه تجري مجرى الوطن في الإيناس، كما قال:
الفقر في أوطاننا غربة، ... والمال في الغربة أوطان
لله درّ الذّهب من خليلٍ، فإنّه يفيء بظلٍّ ظليلٍ؛ وإن دفن لم يبال، ما هو كغيره بالٍ؛ أعطي نفيس المقدار، فما همَّ شرفه بانحدار؛ والدر إذا كسر ذهبت قيمته، ولم يحفظ إن تنحطم كريمته، وربَّ ذهب في سوار،غبر زماناً غير متوار، ثمّ جعل في خلخال، تختال بلبسه ذات الخال، ثمّ نقل إلى جامٍ أو كاسٍ، وهو بحسنه كاسٍ، ما تغيَّر لبشار النّيران، ولا غدر بوفيّ الجيران.
ولعّل هذه الثمّانين، قد أدرك ذهبها قارون، وموسى المرسل وأخاه هارون، وليس للهلكة به اتّصال، ولا من العزة له انفصال، يعظمَّ في أرض السند، وبلاد الهند.
وأمّا ابنة الأخت، أدام الله لها الصيانة، فإنّها أدلَّت على الخال إذ كان أحد الوالدين، فهمَّت أن تأكل بيدين، وما هي بأختٍ للّرجل الذي قال فيه القائل:
ووراء الثأر منَّي ابن أختٍ ... مصع، عقدته ما تحل
ولا تجعلها أختاً للهجرس لأنّه طالب خاله بثأرٍ، فلم يقبح ما فعل من الآثار، ولكن تشبه أن تكون أختاً لابن مضرسٍ حين فاتتها الأخوة من الهجر، وهو المعروف بالخنوت واسمه توبة، وكان له أخ يقال له طارق رهط خاله، فرأى أن يقتل خاله، وقال:
بكت جزعاً أميّ رميله أن رأت
دماً من أخيها في المهنَّد باديا
فقلت لها: لا تجزعي إنَّ طارقاً
حميمى الذي كان الخليل المصافيا
وما كنت، لو أعطت ألفي نجيبةٍ
وأولادها لغواً تساق، وراعيا
لأرضى بوترٍ منهم دون أن أرى
دماً من بني عوفٍ على السيف جاريا
وما كان في عوفٍ دم لو أصبته
ليوفيني من طارقٍ غير خاليا وهو القائل:
لتبك النسّاء المعولات لطارقٍ
ويبكين مرداساً قتيل قنان
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما،
إذا شبعت من قرملٍ وأفان
ويجوز أن يكون قد رشح إلى هذه المرأة شيء من آداب الخؤولة، فليتق معرَّة بيانها، أكثر من اتقّائه خلسة بنانها. فهو يعلم أنَّ الشعر ورثه زهير بن أبي سلمى من خاله بشامة بن الغدير ولم يكن مزينة شعر يذكر، وحضره زهير عند الوفاة فأراد أن يعطيه شيئاً من ماله، فال بشامة: أما بكفيك أنّي ورَّثتك غرائب القصيد؟ وربمّا كان في نساء حلب، حرسها الله، شواعر، فلا يأمن أن تكون هذه منهنّ، فطالما كنَّ أجود غرائز من رجالهنّ، وحدّث رجل ضرير من أهل آمد يحفظ القرآن، يأنس بأشياء من العلم، انّه كان وهو شاب له امرأة مقينة تزين النساء في الأعراس، وكان ينجم في القرع، وكان يعتمد حفظ تلك الأشعار ويدرسها في بيته، ولا غريزة له في معرفة الأوزان، فيكر البيت. فتقول له امرأته الماشطة: ويلي! ما هذا جيد! فيلاجها ويزعم أنّها مخطئة. فإذا أصبح مضى فسأل من يعرف ذلك، فأخبره أنّ الصواب معها، وعرفَّه كيف يجب أن يكون، فإذا لقنه عنه، عاد في اللّيلة الثانية، فذكره وقد أصلح، فتقول الماشطة: هذا الساعة جيد.
وكان لي كريَّ من أهل البادية عرف بعلوان وله امرأة تزعم أنّها من طيّ، فكان لا يعرف موزون الأبيات من غيره، وكانت المرأة تحس بذلك. وكانت تتأسف على طفلٍ مات لها يقال له رجب، وكانت تنشد هذا البيت:
إذا كنت من جرَّا حبيبك موجعاً
فلا بدَّ يوماً من فراق حبيب فقالت يوماً:
إذا كنت من جرَّا رجيب موجعاً
فعلمت أنّ الوزن مختلّ، فقالت:
إذا كنت من جرَّاً رجيبن موجعا
فحركت التنوين وأنكرت تحريكه بالطبع. فقالت:
إذا كنت من جرَّا رجيبك موجعاً
فأضافته إلى الكاف فاستقام الوزن
واللّفظ.
وفي الكتاب العزيز " يا أيُّها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم، وإنّ تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ".

















مصادر و المراجع :      

١- رسالة الغفران

المؤلف: أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان، أبو العلاء المعري، التنوخي (المتوفى: 449هـ)

الناشر: مطبعة (أمين هندية) بالموسكي (شارع المهدي بالأزبكية) - مصر

صححها ووقف على طبعها: إبراهيم اليازجي

الطبعة: الأولى، 1325 هـ - 1907 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید