المنشورات

الغد:

عرفت أني فكرت ليلة أمس فيما أكتب اليوم وعرفت أني آخذ الساعة بقلمي بين أناملي, وأن بين يدي صحيفة بيضاء تسود قليلا قليلا كلما أجريت القلم فيها, ولكن لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو1 دون غايته، وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها؟ لأني لا أعرف من شئون الغد شيئا؛ ولأن المستقبل بيد الله.
عرفت أني لبست أثوابي في الصباح وأنها لا تزال فوق جسمي حتى الآن, ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي أو تخلعها يد الغاسل.
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد فربما كان ملكا رحيما، وربما كان شيطانا رجيما، بل ربما كان سحابة سوداء إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها وفرقت ذراتها فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه1، وتصطخب أمواجه، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدرر والجواهر، أو الموت الأحمر.
لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار, حتى لو أن إنسانا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره لا يدري أيضعها على عتبة القصر، أم على حافة القب؟
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه2 العقول وتستدرجه الأنظار فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.
كأنى بالغد وهو كامن في مكمنه رابض في مجثمه3 متلفع بفضل إزاره ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية, ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء، يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب وهذا الوالد أنه يلد للموت ما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد.
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم فاتخذ نفقا في الأرض وصعد بسلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب4 من حديد وخيوط من نحاس، وانتقل بعقله إلى العالم العلوى الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه1، وتصطخب أمواجه، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدرر والجواهر، أو الموت الأحمر.
لقد غمض الغد عن العقول ودق شخصه عن الأنظار, حتى لو أن إنسانا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره لا يدري أيضعها على عتبة القصر، أم على حافة القب؟
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه2 العقول وتستدرجه الأنظار فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جادت الصخرة بالماء الزلال.
كأنى بالغد وهو كامن في مكمنه رابض في مجثمه3 متلفع بفضل إزاره ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية, ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء، يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث وهذا الباني أنه يبني للخراب وهذا الوالد أنه يلد للموت ما جمع الجامع ولا بنى الباني ولا ولد الوالد.
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم فاتخذ نفقا في الأرض وصعد بسلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب4 من حديد وخيوط من نحاس، وانتقل بعقله إلى العالم العلوى
 فعاش في كوكبه وعرف أغوارها وأنجادها، وسهولها وبطاحها، وعامرها وغامرها، ورطبها ويابسها، ووضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة والموازين لوزن كرة الأرض إجمالا وتفصيلا، وغاص في البحار فعرف أعماقها وفحص تربتها, وأزعج سكانها ونبش دفائنها وسلبها كنوزها وغلبها على لآلئها وجواهرها، ونفذ من بين الأحجار والآ كام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها وعرف كيف يعيشون، وأين يسكنون، وماذا يأكلون ويشربون، وتسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة فعرف النفوس وطبائعها، والعقول ومذاهبها، والمدارك ومراكزها، حتى كاد يسمع حديث النفس ودبيب المنى، واخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزا مقهورا لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه؛ لأنه باب الله، والله لا يطلع على غيبه أحدا.
أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلا لنرى صفحة1 واحدة من صفحات وجهك المقنع, أو لا فاقترب منا قليلا علنا نستطيع أن نستشف صورتك من وراء هذا اللثام المسبل دوننا فقد كارت قلوبنا شوقا إليك، وذابت أكبادنا وَجدا عليك.
أيها الغد، إن لنا آمالا كبارا وصغارا، وأماني حسانا وغير حسان، فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها، أأذلتها واحتقرتها، أم كنت لها من المكرمين.
لا لا. صن سرك في صدرك وأبق لثامك على وجهك ولا تحدثنا حديثا واحدا عن آمالنا وأمانينا حتى لا تفجعنا فيها فتفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة:
وليست حياة المرء إلا أمانيا ... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید