المنشورات

أيها المحزون:

إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شؤونك وأطوارك وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي فجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطلب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها، وعطائها ومنعها، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها وتلك خَلتها في جميع أبناء آدم سواء في ذلك ساكن القصر وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء، ومن ينام على بساط الغبراء، فخفِّض من حزنك، وكفكف من دمعك، فما أنت بأول غرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بالبدعة الطريفة في جريدة المصائب والأحزان.
أنت حزين لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كرَّة الطرف أن افتقدته، فما وجدته، ولو أنك أجملت في أملك، لما غلوت في حزنك، ولو كنت أنعمت نظرك فيما تراءى لك لرأيت برقًا خاطفًا، ما تظنه نجمًا زاهرًا، وهنا لك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله.
أسعد الناس في هذه الحياة من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظرة المستريب بها وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في يده فذاك، وإلا فقد أعد لفراقها عُدته من قبل.
لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاق، ما كانت ترحة الفراق.
إلى الدير:
مسكين ذلك الفتى الذي رأيته صباح أمس منزويًا في ركن من أركان أحد الأندية، وقد ظللت جبينه الوضاح سحابة سوداء من الحزن، وانحنى على نفسه كأنما شعر بأن قلبه يتمشى في صدره، وأنه يحاول الفرار منه فهو يعطف عليه ليمسكه بين جوانحه، ولو أنه أراد بنفسه خيرا لتركه يمضي في سبيله حيث شاء، فبعدًا لقلب لا يسكن عن الخفقان، ولا يفيق من الهموم والأحزان.
سألته ما بالك أيها الصديق، قال: لا شيء، قلت أن تكتمني ما في نفسك ولو عرفتني ما كتمتني، قال ما جهلتك مذ عرفتك، ولكنني أعطيت الله عهدًا مذ خلقت ألا أشكو إلا إلى من أرجو عنده البرء، وما أنا براجٍ عندك، ولا عند أحد من الناس براء من دائي، قلت: هبني طبيبًا والطبيب وإن كان لا يشفي إلا نادر فإنه يسكن غالبًا، ويعزي دائما، فأنا إن عجزت عن معالجتك، فلا أعجز عن تعزيتك، على أن الماء إذا اشتد غليانه احتاج إلى التنفيس عنه، وإلا طار بالقدر، طيران الهم بالصدر.
فأصغي إلى كلماتي واستخذي لها، وأنشأ يحدثني حديثًا تمازجه العبرات، وتقطعه الزفرات، ويقول: زوجني أبي منذ سنين من زوجة جاهلة غبية لا تفهم معنى الزواج إلا أن فيه قضاء لبانتها، وترفيهَ عيشها، وإرضاء نفسها، وهو يحسب أنه قد أحسن إلي بسليلة المجد وربيبة النعمة ومالكة الدور، وساكنة القصور، أجل إنها ذات مال وفير، وخير كثير، ولكن ذهب عليه غفر الله له أني ما كنت أريد أن أكون تاجرا أكسب مالا بل زوجًا أجد بجانبي نفسًا يؤنسني محضرها ويوحشني مغيبها، ومرآة صافية نقية أتراءى فيها، فتريني نفسي كما هي لا تكذبني في خير ولا شر، إني أريد أن أجد في الزوجة التي أتزوجها صديقًا في المرتبة العليا من مراتب الصداقة، ومن لي به في امرأة تجهل حتى إرضاع طفلها ولبس ثوبها، على أن ثروتها ما كانت تقوم بحاجتها فقد كان لها خادمة لملابسها، وأخرى لشعرها، وأخرى لسريرها وطابخة وغاسلة ومرضع وقهرمانة وخياطة خاصة بها وطبيب لا يُغِبُّ1 زيارتها ومؤنسات لا يفارقن مجلسها، ولم تكن ممن أنعم الله عليهن بنعمة الجمال، فكانت تنفق ما يزيد على نصف دخلها في الحسن المجلوب، والجمال المكذوب، وليتها كانت تغفل أمري وتتركني وشأني فأستطيع أن أتناساها، وأعدَّ نفسي من العزاب تخيلًا وتقديرًا، بل كانت تقيم من نفسها، ومن هذا الجحفل اللجب1 المحيط بها حراسا كحراسٍ الليل، وجواسيس كجواسيس الإنكليز يراقبن مواقع نظري ومواطئ قدمي لتعلم أين مذهب قلبي، ووجهة نفسي فتغار عليَّ من الكوكب إذا رأتني أنظر إليه، وتكاد تمزق الثوب الذي أحبه وأتعشق لبسه، وتحسبها آهة الوجد أو دمعة الحب إذا رأتني أتأوه من آلام عشرتها أو أبكي لعظم مصيبتي فيها، وما هي بغيرة الحب ولكنها الأثرة2 قبحها الله وقبح كل ما تأتي به، وأكثر ما كان يغيظني منها أنها ما كانت تفتح علي باب الحساب على اللفتات والخطوات إلا في الساعة التي أريد أن أخلو فيها بنفسي أو بكتابي فما أكاد أنتفع بواحد منهما، فإن سكت أغضبها سكوتي، وإن نطقت أغضبها حديثي، وإن قرأت في كتابي ظنت أن المؤلفين ما ألفوا الكتب إلا نكاية بالنساء لكي يتخذها الرجال معتصمًا يعتصمون به من محادثتهنَّ ومسامرتهن، فكان الكتاب في نظرها أعدى أعدائها وأبغض الأشياء إليها، وجملة القول إنها ما كانت تستطيع أن تتصور إلا أن الله خلقها لتكون طفلة لاهية لاعبة في جميع أطوار حياتها، وأنه ما خلقني إلا لأكون زينة مجلسها، ودمية1 قصرها، وأداة لهوها ولعبها، فلا أقرأ ولا أكتب، ولا أعطي نفسي حقًّا من حقوقها ولا أبكر لمزاولة أعمالي ولا أسأم أحاديثها الطويلة المملة التي لا تشتمل إلا على نقد الأزياء، واغتياب النساء، فإن وافيت رغبتها فذاك، وإلا استحالت في لحظة واحدة من إنسان ناطق إلى وحش مفترس، فلا تعرف كلمة مؤلمة لا تسمعنيها ولا تترك وسيلة من وسائل التنغيص لا تهجم بها عليَّ، فكنت بين ألم رضاها وعذاب غضبها في شقاء حبب إلي الموت وبغض إلى وجه الحياة، وبعد فقد رأيت أن العيش معها مستحيل فلم أرى بُدًّا من فراقها ففارقتها، وما على وجه الأرض شيء أبغض إلي من المجد ولا أسمج في نظري من المال، قلت ولكنني لا أزال أراك حزينا بعد ذلك، قال نعم لأنني نفضت يدي من الزوجة الجاهلة، ورحت أفتش عن الزوجة المتعلمة وقلت ليكونن لي من الشأن في الزواج الثاني ما لم يكن لي في الزواج الأول بعد ما صار إلي الخيار، وبعد تلك التجربة وذاك الاختبار، فهيأ لي الحظ جارًا ملاصقًا ما زلت أسمع مذ حل في جواري أن في بيته فتاة جميلة، ما زال يعنَى بأمرها حتى خَرّجها1 وأدَّبها فأصبحت نابغة مدرستها وسيدة أترابها علمًا وفضلًا وتهذيبًا وأدبًا فما قنعت بالخبر حتى خالطت أباها ثم خالطتها فإذا المرأة الجديدة من جميع وجوهها فوقعت في نفسي أحسن موقع وحلت مكانًا لم يكن حلَّ من قبل.
خطبت الفتاة إلى أبيها فما لبث أن أخطبني2 فامتلأ قلبي فرحًا وسرورًا وخيل إلي أنني أرى في سماء الآمال نجمًا لامعًا يدنو مني قليلًا قليلًا وسجلت أن الدهر أنشأ يكفر بحسناته، ما أسلف من سيئاته، فإني لكذلك، وقد أعددت للبناء بها عدته ولم يبق بيني وبينه إلا يوم واحد، وإذا برسول البريد قد جاءني بهذا الكتاب. فهاكه فاقرأه فإن فيه بقية قصتي وسر نكبتي، ثم ألقى إلي بغلاف معنون باسمه، فوجدت فيه بطاقة تشتمل على رسم فتى حسن الصورة والهندام يخاصر فتاة جميلة، وقد ألقت برأسها على كتفه ووجدت مع البطاقة كتابًا، فقرأت فيه ما يأتي:
"علمت أنك خطبت فلانة إلى أبيها، وأنك عما قليل ستكون زوجها، ولعمري لقد كذبك نظرك وخدعك من قال لك إنك ستكون سعيدًا بها، فإنها لن تكون لك بعد أن صارت لغيرك ولا يخلص حبك إلى قلبها بعد أن امتلأ بحب عاشقها، فاعدل عن رأيك فيها، وانفض يدك منها، وإن أردت أن تعرف من هو ذلك العاشق، وتتحقق صدق خبري وإخلاصي إليك في نصيحتي فانظر إلى الصورة المرسلة مع هذا الكتاب" التوقيع
فما نظرت الصورة، وقرأت الكتاب حتى عرفت كل شيء فأحسست برِعدة تتمشى في أعضائي وشعرت بسحابة سوداء قد غشت على نظري لهول ما سمعت، وسوء ما رأيت، إلا أنني تماسكت قليلًا فأعدت إليه كتابه، وقلت له وهو كل ما استطعت أن أقول: ماذا يعنيك من أمر فتاة فاجرة عاهر بعد ما انكشف لك سرها، وظهرت لك حقيقتها، ولو كنت في مكانك لعدلت عن الحزن على فوتها إلى الاستغفار من حبها، وحَمْدِ الله على ما ألهم من صواب الرأي فيها، أما إن سألتني عن رأيي في زواجك بعد الآن، فإني لا أرى لك إلا أن تترهب وتتعزَّب1 وأن تقول ما قاله "هملت" وقد زهد في الزواج بعد ما عرف حقيقة المرأة، وأدرك خبيئة نفسها "إلى الدير، إلى الدير".
















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید