المنشورات
عبرة الدهر:
بنى فلان في روضة من رياض بساتينه الزاهرة قصرًا فخمًا يتلألأ في تلك البقعة الخضراء، تلألؤ الكوكب المنير في البقعة الزرقاء، ويطاول بشرفاته الشماء، أفلاك السماء، كأنه نسر محلق في الفضاء، أو قرط معلق في أذن الجوزاء، وكأن شرفاته آذان تفضي إليها النجوم بالأسرار، وطاقاته أبراج تنتقل فيها الشموس والأقمار.
شاده مرمرا وجلله كلسا1 ... فللطير في ذراه وكور
ولم يدع ريشه لمصور ولا ليقة2 لرسام إلا أجراها في سقوفه وجدرانه، وطاقاته وأركانه، حتى ليخيل إلى السالك بين أبهائه3 وحجراته، ومحاربيه وعرصاته4، أنه ينتقل من روضة تزهر بالورود الحمراء، والأنوار البيضاء، إلى بادية تسنح فيها الذئاب الغبراء، والنمور الرقطاء، ومن ملعب تصيد فيه الظباء الأسود إلى غاب تصيد فيه الأسود الظباء، وأنشأ في كبرى ساحاته، وأوسع باحاته، صهريجا من المرمر مستديران يضم بين حاشيته فوَّارة ينفر منها الماء صعدًا كأنه سيف مجرَّد، أو سهم مسدد، فيخيل إلى الرائي أن الأرض تثأر لنفسها من السماء، وتتقاضاها ما أراقت منها من الدماء، تلك تقاتلها بالرجوم والشهب، وهذه تحاربها بالسهام والقضب، وغرس حول دائرة الصهريج دوائر من شجرات، مؤتلفات ومختلفات، وأغصان، صنوان وغير صنوان، إذا رنحتها نسائم الأسحار، رقصت فوق بساط الأزهار، وتحت ظلال الأثمار، فغنت على رقصها الأطيار، غناء الأغاريد لا غناء الأوتار، وادخر فيه لنعيمه وبلهنيته1 ما شاء الله أن يدخر من نضائد2 ومقاعد، ووسائد ومساند، وفرش وعرش، وكلل3 وحجل4، وتماثيل وتهاويل5، وصحاف من ذهب، كاللهب، وأكواب من بلور، كالنور، وأقفاص للحمائم والنسور، ومقاصير للسباع والنمور،وعربات وسيارات، وجياد صافنات، ووصائف وولائد، تحيط بالمجالس والموائد، إحاطة القلائد، بأعناق الخرائد، وخدم حسان، تنتقل في الغرف والقيعان، تنقل الولدان، في غرف الجنان.
في ليلة من ليالي الشتاء حالكة الجلباب، غدافية1 الإهاب، أفاق صاحب القصر من غشيته فتحرك في سريره وفتح عينيه فلم ير أمامه غير خادمه "بلال" وهو خصي أسود من ذوي الأسنان رباه صغيرا وكفله كبيرا, وكان يجمع بين فضيلتي الذكاء والوفاء فأشار إليه إشارة الواله المتلهف أن يأتيه بجرعة ماء فجاءه بها فتساند على نفسه حتى شرب, وكأن الماء قد حل عقدة لسانه فسأله: في أي ساعة من ساعات الليل نحن يا بلال؟ فأجابه: نحن في الهزيع الأخير يا سيدي، فقال: ألم تعد سيدتك إلى الآن، قال: لا، فامتعض امتعاضا شديدا وزفر زفرة كادت تخترق حجاب قلبه, ثم أنشأ يتكلم كأنما يحدث نفسه ويقول: إنها تعلم أني مريض وأني في حاجة إلى من يسهر بجانبي ويتعهد أمري ويرفه2 عني بعض ما أعالجه, وليس بين سكان القصر من هو أولى بي وأقوم علي منها، أين وفاؤها الذي كانت تزعمه وتقسم لي بكل محرجة من الإيمان عليه، أين حبها الذي كانت تهتف به في صباحها ومسائها وبكورها وأصائلها، أين النعيم الذي كنت أقلبها في أعطافه والعيش الرغد الذي كنت أرشفها كئوسه، أأن علمت أني أصبحت بين حياة لا أرجوها وموت لا أجد السبيل إليه برمت1 بي واستثقلت ظلي واستبطأت أجلي واستطالت ضجعتي فهي تفر من وجهي كل ليلة إلى حيث تجد لذات العيش ومواطن السرور، آه من العيش ما أطوله، وآه من الموت ما أثقله.
وما زال يحدث نفسه بمثل هذه الأحاديث حتى هاج ساكنه, واضطربت أعصابه فعاودته الحمى وغلى رأسه بنارها غليان القدر بمائها, فسقط على فراشه ساعة تجرع فيها من كأس الموت جرعا مريرة بيد أنه لشقائه لم يأت على الجرعة الأخيرة منها.
أفاق من غشيته مرة ثانية فلم ير بجانبه تلك التي تسيل نفسه حسرات عليها فسأل الخادم ألا تعلم أين ذهبت سيدتك يا بلال؟، قال: خير لك ألا تنتظرها يا مولاي وألا تلومها في بعدها عنك, فإن لها عند بعض الناس دينا فهي تخرج كل ليلة لتتقاضاه، قال: ما عرفت قبل اليوم أن بينها وبين أحد من الناس شيئا من وذلك، ومتى كان يتقاضى الدائن دينه في مثل هذه الساعة من الليل، وهل أعياها أن تجد من يقوم لها بذلك فهي تتولاه بنفسها، وهلا فرغت من أمر دينها بعد اختلافها إليه سنة كاملة، قال: إن بينها وبين غريمها صكا مكتوبا أن يؤدي ما عليه من الدين أقساطا في كل ليلة قسط على أن تتناوله بيدها وأن تكون مواعيد الوفاء أخريات الليال، قال: ما سمعت في حياتي بأغرب من هذا الدين ولا أعجب من هذا الصك, ومن هو غريمها؟ قال: أنت سيدي، فنظر إليه نظرة الحائر المشدوه1 وقال: إني أكاد أجن لغرابة ما أسمع, وأحسب أنك هاذ فيما تقول أو هازئ، فدنا منه الخادم وقال: والله يا سيدي ما هزأت في حياتي ولا هذيت، ألا تذكر تلك الليالي الطوال التي كنت تقضيها خارج المنزل بين شهوة تطلبها، وكأس تشربها، وملاعب تجرر فيها أذيالك، ومراقص تهتك فيها أموالك، تاركا زوجتك في هذه الغرفة على هذا السرير تشكو الوحشة، وتبكي الوحدة، وتتقلب على أحر من الجمر شوقا إليك، وحزنا عليك، فلا تعود إليها إلا إذا شاب غراب الليل، وطار نسر الصباح، إنك سلبتها تلك الليالي السالفة فأصبحت غريمها فيها فهي تستردها منك اليوم ليلة ليلة حتى تأتي عليها، ذلك هو دينها وهذا عو غريمها، ألا تذكر أنك كنت في لياليك هذه ربما تحبس الزوجة عن زوجها وتملكها عليه وهو واقف موقفك هذا في حسرتك هذه يبكي ما تبكي, ويندب ما تندب، ذلك الزوج هو الذي يتقاضاك اليوم حقه ويأبى ألا أن يأخذ عينا بعين ونقدا بنقد، فهو يفجعك في زوجتك كما كنت تفجعه في زوجته, ويقض1 مضجعك كما كنت تقض مضجعه، وأنا أعيذك بعدلك وإنصافك أن تكون من لواة الدين أو تكون من الظالمين.
قال: حسبك يا بلال فقد بلغت مني وإن لي في حاضري ما يشغلني عن ماضي فادع لي ولدي، قال: لم يعد يا سيدي من الوجه التي بعثته فيه حتى الآن، قال: لا أذكر أني بعثته في وجه ما, وأين ذهب؟ قال: ذهب إلى الحانة التي يختلف إليها, ولن يرجع منها حتى يرتوي ولن يرتوي حتى يعجز عن الرجوع، إنني طالما وقفت بين يديك يا مولاي ضارعا إليك أن تحول بينه وبين خلطاء السوء وعشراء الشر حتى لا يفسدوه عليك فكنت تعرض عني إعراض من يرى أن تدليل الولد وترفيهه2 وإرخاء العنان له عنوان من عناوين العظمة ومظهر من مظاهر الأبهة والجلال، كنت أسألك أن تعلمه العلم وأن تهديه إلى طريق المدرسة ليضل عن طريق الحانة, فكنت ترى أن الذي يحتاج إلى العلم من يرتزق به, وأن ولدك عن ذلك من الأغنياء، فلا تشك من عمل يديك، ولا تبك من جناية نفسك عليك، فأنت الذي أرسلته إلى الحانة وأنت الذي أبقيته فيها إلى مثل هذه الساعة, وأنت الذي أبعدته عن فراشك أحوج ما كنت إليه.
وما وصل الخادم من حديثه إلى هذا الحد حتى نصل الليل من خضابه واشتعل المبيض في مسوده وإذا صوت الناعورة يرن في بستان القصر رنين الثكلى فقدت واحدها، فقال السيد: هات يدك يا بلال وخذ بيدي إلى جوار النافذة لأروح عن نفسي بعض ما ألم بها أو أودع إلى جانبها نسمات الحياة، ثم اعتمد على يده حتى وصل إلى النافذة فجلس على كرسي مستطيل وألقى على البستان نظرة طويلة فرأى البستاني وزوجه جالسين إلى الناعورة وقد برقت بوارق السعادة من خلال أثوابهما البالية بريق الكواكب المنيرة من خلال السحب المتقطعة، رآهما متحابين متعاطفين لا يتعاتبان ولا يتشاحان1 ولا يشكوان ولا يندبان حظا، رآهما قويين نشيطين يجري دمهما في عروقهما صافيا رائقا وكأن كلا منهما يحاول أن يخرج من إهابه1 مرحا ونشاطا، رآهما راضيين بما قسم الله لهما من خشونة الملبس وجشوبة2 المطعم فلا يتشهيان ولا يتمنيان ولا ينظران إلى ذلك القصر الشامخ المطل عليهما نظرات الهم والحسرة، سمعهما يتحدثان فأصغى إليهما فإذا البستاني يقول لزوجه: والله لو وهب لي هذا القصر برياضه وبساتينه، وآنيته وخرثيه3، على أن تكون لي تلك الزوجة الخائنة الغادرة لفضلت العيش فوق صخرة في منقطع العمران، على البقاء في مثل هذا المكان، أقاسي تلك الهموم والأحزان، فقالت: لا أحسب أن سيدنا ينجو من خطر هذا المرض فقد مر به على حاله تلك عام كامل وهو يزداد كل يوم ضعفا ونحولا، قال: قد علمت أن الطبيب قد نفض يده من الرجاء فيه, وأضمر اليأس منه ولا عجب في ذلك فإنه ما زال يسرف على نفسه ويذهب بها المذاهب كلها حتى قتلها، قالت: ما أشقاه أكانت نفسه عدوة إليه فجنى عليها هذا الشقاء، وذلك البلاء، قال: ما كان عدوا لنفسه ولا كانت نفسه عدوة إليه ولكنه كان جاهلا مغرورا غره شبابه وماله وعزه وجاهه فظن أنه قد أخذ على الدهر عهدا بالسلامة والبقاء فانطلق في سبيله لا يلوي على شيء مما وراءه حتى سقط في الحفرة التي احتفرها لنفسه، قالت: أتعلم ماذا يكون حال هذا القصر من بعده، قال: لا أعلم إلا أنه سيكون لولده، قالت: ولكني أعلم أنه سيكون لفلان، قال: إن فلانا ليس وريث السيد بل صديقه، قالت: إنه ليس بصديق السيد بل صديق السيدة، فهو خاطب زوجته قبل وفاته، وزوجها بعد مماته.
فما سمع السيد هذه الكلمات حتى اضطرب اضطرابا شديدا وسقط عن كرسيه وهو يقول: أشهد أني من الأشقياء, وما زال في غشيته تلك حتى صحا صحوة الموت وفتح عينيه فرأى بين يديه هذا المنظر المحزن المؤلم.
رأى ولده لاهيا بمحادثة فتاة من فتيات القصر، ورأى زوجته تضاحك تربا من أترابها وتغمزها بطرفها أن قد حان حينه ودنا أجله، ورأى صديقه أو ولي عهده يأمر في القصر وينهى ويتصرف تصرف السيد المطاع، ورأى نفسه يعالج سكرات الموت ويعد عدته للانتقال من القصر إلى القبر، وهنا سمع كأن هاتفا يهتف به من السماء ويقول: أيها الرجل، لو وفيت لزوجك
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)