المنشورات

أفسدك قومك:

أيها المجرم الفاتك الذي يسلب الخزائن نفائسها، والأجسام أرواحها، لست أحمل عليك من العتب فوق ما يحتمله ذنبك, ولا أنظر إليك بالعين التي نظر بها إليك القاضي الذي قسا في حكمه عليك؛ لأني أعتقد أن لك شركاء في جريمتك فلا بد لي من أن أنصفك وإن كنت لا أستطيع أن أنفعك.
شريكك في الجريمة أبوك؛ لأنه لم يتعهدك بالتربية في صغرك ولم يحل بينك وبين مخالطة المجرمين, بل كثيرا ما كان يبخبخ1 لك إذا رآك هجمت على تربك وضربته, ويصفق لك إذا رأى أنك تمكنت من اختلاس درهم من جيب أخيك أو اختطاف لقمة من يده، فهو الذي غرس الجريمة في نفسك وتعهدها بالسقيا حتى أينعت ونمت وأثمرت لك هذا الحبل الذي أنت معلق به اليوم، وها هو ذا الآن يذرف عليك العبرات، ويصعد الزفرات، ولو عرف أنها جريمته وأنها غرس يمينه لضحك مسرورا بغفلة الشرائع عنه, وسجد لله شكرا على أن لم يكن حبلك في عنقه وجامعتك1 في يده.
شريكك في الجريمة هذا المجتمع الإنساني الفاسد الذي أغراك بها، ومهد لك السبيل إليها، فقد كان يسميك شجاعا إذا قتلت، وذكيا فطنا إذا سرقت، وعالما إذا احتلت، وعاقلا إذا خدعت، وكان يهابك هيبته للفاتحين، ويجلك إجلاله للفاضلين، وكثيرا ما كنت تحب أن ترى وجهك في مرآته فتراه وجها أبيض ناصعا فتتمنى لو دام لك هذا الجمال، ولو أنه كان يؤثر نصحك ويصدقك الحديث عن نفسك لمثل لك جريمتك في نظرك بصورتها الشوهاء، وهنالك ربما وددت بجدع الأنف لو طواك بطن الأرض عنها، وحالت المنية بينك وبينها.
شريكك في الجريمة حكومتك؛ لأنها كانت تعلم أن الجريمة هي الحلقة الأخيرة من سلسلة كثيرة الحلقات وكانت تراك تمسك بها حلقة حلقة وتعلم ما سينتهي إليه أمرك فلا تضرب على يدك ولا تعترض دون سبيلك، ولو أنها فعلت لما اجترمت، ولا وصلت إلى ما إليه وصلت.
كانت حكومتك تستطيع أن تعلمك وتهذب نفسك, وأن تقفل بين يديك أبواب الحانات, وأن تحول بينك وبين مخالطة الأشرار بإبعادهم عنك وتشريدهم في مجاهل الأرض ومخارمها, وأن تعديك1 على قتيلك قبل أن يبلغ حقدك عليه مبلغه من نفسك وأن تحسن تأديبك في الصغيرة، قبل أن تصل إلى الكبيرة، ولكنها أغفلت أمرك فنامت عنك نوما طويلا حتى إذا فعلت فعلتك استيقظت على صوت صراخ المقتول وشمرت عن ساعدها لتمثل منظرا من مناظر الشجاعة الكاذبة، فاستصرخت جندها واستنصرت أسلحتها وأعدت جذعها وجلادها, وكان ما فعلت أنها أعدمتك حياتها.
هؤلاء شركاؤك في الجريمة, وأقسم لو كنت قاضيا لأعطيتك من العقوبة على قدر سهمك في الجريمة, وجعلت تلك الجذوع قسمة بينك وبين شركائك, ولكنني لا أستطيع أن أنفعك، فيا أيها القتيل المظلوم رحمة الله عليك.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید