المنشورات

عبرة الهجرة:

إن في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن كل خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء.
إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه وحلمه، وصبره واحتماله، وتواضعه وإيثاره، وصدقه وإخلاصه، أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشى الشجر، ولين الحجر؛ ذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى من الشبه بينها وبين عرافة العرافين وكهانة الكهنة وسحرة السحرة، فلولا صفاته النفسية وغرائزة وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريد، ولا تركت المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر المعروف، ذلك هو معنى قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- شجاع القلب فلم يهب أن يدعو إلى التوحيد قوما مشركين يعلم أنهم غلاظ جفاة شرسون متحمسون يغضبون لدينهم غضبهم لأعراضهم ويحبون آلهتهم كما يحبون أبناءهم.
كان على ثقة من نجاح دعوته فكان يقول لقريش أشد ما كانوا هزءا وسخرية: "يا معشر قريش والله لا يأتي عليكم غير قليل حتى تعرفوا ما تنكرون، وتحبوا ما أنتم له كارهون".
كان حليما سمح الأخلاق, فلم يزعجه أن كان قومه يؤذونه ويزدرونه ويشعثون1 منه ويضعون التراب على رأسه ويلقون على ظهره أمعاء الشاة وسلى2 الجزور وهو في صلاته بل كان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون".
كان واسع الأمل كبير الهمة صلب النفس لبث في قومه ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله, فلا يلبي دعوته إلا الرجل بعد الرجل فلم يبلغ الملل من نفسه ولم يخلص اليأس إلى قلبه فكان يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته".
وما زال هذا شأنه حتى علم أن مكة لن تكون مبعث الدعوة ولا مطلع تلك الشمس المشرقة فهاجر إلى المدينة فانتقل الإسلام بانتقاله من السكون إلى الحركة ومن طور الخفاء إلى طور الظهور.
لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنها أكبر مظهر من مظاهره وكانت عيدا يحتفل به المسلمون في كل عام؛ لأنها أجمل ذكرى للثبات على الحق والجهاد في سبيل الله.
لقد لقى -صلى الله عليه وسلم- في هجرته عناء كبيرا وشدة عظيمة, فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضنا به بل مخافة أن يجد في دار هجرته الأعوان والأنصار ما لم يجد بينهم, كأنما كانوا يشعرون بأنه طالب حق وأن طالب الحق لا بد أن يجد بين المحقين أعوانا وأنصارا، فوضعوا عليه العيون والجواسيس فخرج من بينهم ليلة الهجرة متنكرا بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه عبثا بهم وتضليلا لهم عن اللحاق به, ومشى هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يتسلقان الصخور ويتسربان في الأغوار والكهوف ويلوذان بأكناف الشعاب والهضاب حتى انقطع عنهم الطلب, وتم لهما ما أرادا بفضل الصبر والثبات على الحق.
إن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم مثال يجب أن يحتذيه المسلمون للوصول إلى التخلق بأشرف الأخلاق والتحلي بأكرم الخصال وأحسن مدرسة يجب أن يتعلموا فيها كيف يكون الصدق في القول والإخلاص في العمل والثبات على الرأي وسيلة إلى النجاح, وكيف يكون الجهاد في سبيل الحق سببا في علوه على الباطل.
لا حاجة لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرومان، وعلماء الإفرنج، فلدينا في تاريخنا حياة شريفة مملوءة بالجد والعمل والصبر والثبات والحب والرحمة والحكمة والسياسة والشرف الحقيقي والإنسانية الكاملة وهي حياة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وحسبنا بها وكفى.















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید