المنشورات

الانتحار:

في كل موسم من مواسم الامتحان المدرسي نسمع بكثير من حوادث الانتحار بين المتخلفين من التلاميذ والراسبين، ولو ربي التلميذ تربية دينية لما هان عليه أن يخسر سعادته الأخروية خسرانا مبينا أسفا على أن لم ينل كل حظه من السعادة الدنيوية, ولو ربي تربية أدبية لما احتقر حياته الثمينة وازدراها ولو وجهه عنها؛ لأنها لم تقدم إليه في لفافة الشهادة المدرسية، ولو أن أستاذه ملأ قلبه بنور الإيمان ولقنه فيما يلقنه من قواعد الدين وأحكامه أن جناية المرء على نفسه أكبر إثما عند الله وأعظم جرما من جنايته على غيره لما خاطر بدينه في آخر ساعة من ساعات حياته، وهي الساعة التي ينيب فيها العاصي إلى ربه ويستغفر فيها المذنب من ذنبه، ولو أنه لقنه فيما يلقنه من
دروس الأخلاق والآداب أن العلم صفة من صفات الكمال لا سلعة من سلع التجارة يجب أن يحفل به صاحبه من حيث ذاته لا من حيث كونه وسيلة من وسائل العيش لما جرى على تلك القاعدة الفاسدة "الشهادة بلا علم خير من العلم بلا شهادة"، ولو أنه رباه على الاستقلال الذاتي وعلمه أن الشرف في هذه الحياة على قدر ما يبذل الإنسان من الجهد في خدمة الأمة أو المجتمع سواء أكان في قصر الملك أم في دار الوزارة، وفي حانوت التجارة، أم في معمل الصناعة، لما أكبر مناصب الحكومة هذا الإكبار ولا احتفل بها احتفال من لا يرى للحياة معنى بدونها، ولو أنه نفث في روعه روح الشجاعة النفسية وعوده الصبر والجلد في مواقف الشدة والبلاء لما جزع هذا الجزع الفاضح ولا جن هذا الجنون الذي خيل إليه أن عذاب النزع أهون من عذاب الهم.
الوالد والأستاذ والمجتمع في مصر عون على الناشئ المتعلم وآفة على عقله وأخلاقه وآدابه.
أما الوالد فإنه يقول له وهو ذاهب به إلى المدرسة: ستكون غدا يا بني حاكما كهذا الحاكم ووزيرا كهذا الوزير، وكلما أراد أن يحثه على الاجتهاد في طلب العلم ويخوفه عاقبة الخيبة في الامتحان صور له المستقبل المجرد من الوظيفة أقبح تصوير وأشنعه، وربما أشار عليه بالانتحار من طرف خفي فيقول له: إذا لم تنجح في الامتحان فموتك أفضل من حياتك، وأما الأستاذ فإنه يضرب له من نفسه مثلا على وجوب احترام المنصب وإجلاله وإنزاله المنزلة الأولى بين أعمال المجتمع الإنساني إذ يراه بعينه يتجرع مرارة الذل ويعاني من كبرياء رؤسائه وقسوة المسيطرين عليه عناء شديدا ويحتمل من ذلك ما لا يحتمله الرجل الشريف حرصا على منصبه وإرعاء عليه، فكأنما يتلقى عنه درسا عمليا موضوعه "إن من يخاطر بمنصبه يخاطر بحياته؛ لأن المنصب كل شيء في هذه الحياة" أما المجتمع فإنه يحترم الموظف الصغير، أكثر مما يحترم العالم الكبير، ويطير إلى تهنئته بإقبال المنصب عليه وتعزيته عن إدباره عنه, كأن الكوكب لا يدور إلا في دائرة المناصب نحوسا وسعودا، فإذا رأى الناشئ ذلك أكبر الوظيفة أيما إكبار ولج به الحرص عليها، واللصوق بها، وكان سروره وحزنه على قدر قربها منه أو بعدها عنه، فإذا وفق إليها لطم بأنفه قبة السماء، وداس بنعله رأس الجوزاء، وإن يئس منها قتل نفسه وهو يتمثل بقول ذلك الشاعر الأحمق:
فإما الثريا وإما الثرى
أيها الناشئ: لقد جهل أبوك وغشك أستاذك وخدعك هذا المجتمع الفاسد فكن أحسن حالا منهم, واعلم أن شرف العلم أكبر من شرف المنصب وأن المنصب ما كان شريفا؛ إلا لأنه حسنة من حسنات العلم وأثر من آثاره، فإن فاتك حظك منه فلا تحفل به فهو أحقر من أن تشتد في أثره أو تبذل حياتك حزنا عليه، ولا تحسد أرباب المناصب على مناصبهم فإنما هم يخدعونك بزخرف من القول وظاهر من النعمة وبهرج من الابتسام، ووراء ذلك لو علمت قلب يقطر دماء وفؤاد يضطرم لوعة وأسى.
خذ لنفسك حظها من العلم والأدب، ولا تحفل بعد ذلك بشيء، فقد ربحت كل شيء.











مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید