المنشورات
غرفة الأحزان:
كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه، أكثر مما أحبه لصلاحه ودينه، فكان يروقني منظره ويؤنسني محضره، ولا أبالي بعد ذلك بشيء من نسكه وعبادته، أو فسقه واستهتاره؛ لأني ما فكرت قط أن أتلقى عنه علوم الشريعة أو دروس الأخلاق فقد علمت من ذلك ما حسبي به وكفى.
قضيت في صحبته عهدا طويلا ما أنكر من أمره ولا ينكر من أمري شيئا حتى سافرت من القاهرة سفرا طويلا فتراسلنا حينا, ثم انقطعت عني كتبه فرابني من أمره ما رابني, ثم عدت فجعلت أكبر همي أن أراه فطلبته في جميع المواطن التي كنت أعرفه فيها فلم أجده، فذهبت إلى منزله فحدثني جيرانه أنه هجره من عهد بعيد وأنهم لا يعرفون أين مذهبه، فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمان، ثم شعرت كأن أولهما يغالب ثانيهما حتى غلبه، فعلمت أن قد فقدت الرجل وأني لن أجد بعد اليوم إليه سبيلا هنالك ذرفت من الوجد دموعا لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء، وأقفر ربعه من الأوفياء، وأصبح غرضا من أغراض الأيام لا تخطئه سهامها، ولا تغبه آلامها1.
بينما أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السرار2 إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يتخيل الناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان، أو مأوى الغيلان، فشعرت كأن بحرا أسود يتدفق بين جبلين شامخين، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر، وتقوم وتقعد، فما توسطت لجته حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة أنة تردد في جوف الليل, فأصغيت إليها فتلتها أختها ثم أخواتها فأثر في نفسي مسمعها تأثيرا شديدا وقلت يا للعجب، كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين، وخفايا المحزونين، وكنت قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزونا حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن استطعت، أو الباكي إذا عجزت، فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته فطرقت الباب طرقا خفيفا فلم يفتح لي فطرقته أخرى طرقا شديدا ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها فإذا هي في ثيابها الممزقة، كالبدر وراء الغيوم المتقطعة، وقلت لها: هل عندكم مريض، فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها, وقالت: أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت. ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير مسنم فدخلتها فخيل إلي أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وأن الغرفة قبر والمريض ميت، فدنوت منه حتى صرت بجانبه فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي، فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي, ثم فتح شفتيه قليلا قليلا وقال بصوت خافت: "أحمد الله فقد وجدت صديقي" فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعا وقلقا وعلمت أني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشدها وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء، وعلى باب القضاء، وألا يجدد لي مرآها حزنا كان في قلبي كمينا، وبين أضالعي دفينا، فسألته ما باله وما هذه الحالة التي صار إليها، وكأن أنسه بي أمد مصباح حياته الضئيل بقليل من النور فأشار إلي أنه يحب النهوض, فمددت يدي إليه فاعتمد عليها حتى استوى جالسا وأنشأ يقص علي هذه القصة:
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتا يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة، وكان قصره يضم بين جناحيه فتاة ما ضمت القصور أجنحتها على مثلها حسنا وبهاء، ورونقا وجمالا، فألم بنفسي من الوجد بها ما لم أستطع معه صبرا، فما زلت بها أعالجها فتمتنع وأستنزلها فتتعذر وأتأتى إلى قلبها بكل الوسائل فلا أصل إليه حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرت منه إليها، فسكن جماحها، وأسلس قيادها، فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت أن جنينا يضطرب في أحشائها فأسقط في يدي وطفقت أرتئي بين أن أفي لها بوعدها، أو أقطع حبل ودها، فآثرت أخراهما على أولاهما وهجرت ذلك المنزل إلى المنزل الذي كنت تزورني فيه أيها الصديق، ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئا.
مرت على تلك الحادثة أعوام طوال وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب ومد يده تحت وسادته وأخرج كتابا باليا مصفرا فقرأت فيه ما يأتي:
لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهدا دارسا أو ودا قديما ما كتبت سطرا، ولا خططت حرفا؛ لأني لا أعتقد أن عهدا مثل عهدك الغادر، وودا مثل ودك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده, إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي نارا تضطرم، وجنينا يضطرب، تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف من المستقبل، فلم تبل بذلك وفررت مني حتى لا تحمل نفسك مئونة النظر إلى شقاء أنت صاحبه، ولا تكلف يدك مسح دموع أنت مرسلها، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف، لا بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان؛ لأنك تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوات والوحوش الضارية إلا جمعتها في نفسك وظهرت بها جميعها في مظهر واحد.
كذبت علي في دعواك أنك تحبني وما كنت تحب إلا نفسك، وكل ما في الأمر أنك رأيتني السبيل إلى إرضاء نفسك فمررت بي في طريقك إليها، ولولا ذلك ما طرقت لي بابا، ولا رأيت لي وجها.
خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك ذهابا بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة، وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا صورة نفسك، وصنعة يدك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دفعتك جهدي حتى عييت بأمرك فسقط بين يديك سقوط الطفل الصغير، بين يدي الجبار الكبير, سرقت عفتي، فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب أستثقل الحياة وأستبطئ الأجل، وأي لذة في العيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجة لرجل ولا أما لولد, بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها، مسبلة جفنها، واضعة خدها على كفها، ترتعد أوصالها، وتذوب أحشاؤها، خوفا من عبث العابثين، وتهكم المتهكمين.
سلبتني راحتي؛ لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي, تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغد إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفه أحد ولا يطرق بابه طارق لأقضي فيه الصبابة الباقية من أيام حياتي.
قتلت أمي وأبي فقد علمت أنهما ماتا وما أحسب موتهما إلا حزنا لفقدي، ويأسا من لقائي.
قتلتني؛ لأن ذلك العيش المر الذي شربته من كأسك، وذلك الهم الطويل الذي عالجته بسببك، قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي فأصبحت في فراش الموت كالذبالة المحترقة، وأحسب أن الله قد صنع لي وأجاب دعائي وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء، إلى دار الحياة والهناء.
فأنت كاذب خادع، ولص قاتل، ولا أحسب أن الله تاركك بدون أن يأخذ لي بحقي منك.
ما كتبت إليك هذا الكتاب لأجدد بك عهدا، أو لأخطب إليك ودا، فقد عرفت مكانك من نفسي، على أنني أصبحت على باب القبر وفي موقف وداع هذه الحياة خيرها وشرها، سعادتها وشقائها، وإنما كتبت إليك؛ لأن لك عندي وديعة وهي فتاتك، فإن كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها.
فما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت إليه فرأيت مدامعه تتحدر من مقلتيه فسألته ماذا تم بعد ذلك؟ قال: إني ما قرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في أضالعي وخيل لي أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزنا وجزعا, فأسرعت إلى منزلها وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها، ورأيت فتاتها إلى جانبها تبكي بكاء مرا فصعقت لهول ما رأيت وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية، وأساود ملتفة، هذا ينشب أظافره وذاك يحدد أنيابه، فما أفقت حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه الغرفة التي سميتها "غرفة الأحزان" حتى أعيش فيها عيشتها ثم أموت موتها.
وها أنذا أموت اليوم راضيا مسرورا فقد حدثني قلبي أن الله قد غفر لي سيئاتي بما قاسيت من العناء، وكابدت من الشقاء.
وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى انعقد لسانه واصفر وجهه وسقط على فراشه فأسلم الروح وهو يقول: ابنتي يا صديقي. فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه, ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه فحضروا تشييع جنازته وما رئي مثل اليوم أكثر باكية وباكيا.
ولما حثونا الترب فوق ضريحه ... جزعنا ولكن أي ساعة مجزع
ويعلم الله أني لأكتب قصته ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج ولا أنسى ما حييت نداءه لي وهو يودع نسمات الحياة وقوله: "ابنتي يا صديقي".
فيا أقوياء القلوب من الرجال، رفقا بضعفاء النفوس من النساء، إنكم لا تعلمون حيت تخدعونهن عن شرفهن وعفتهن أي قلب تفجعون، وأي دم تسفكون.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)