المنشورات
الحب والزواج:
قرأت في بعض المجلات قصة قصها أحد الكتاب, وموضوعها أن كاتبها غاب عن بيروت بضعة أعوام ثم عاد إليها بعد ذلك فزار صديقا له من أسرياء الرجال ووجوههم ومن ذوي الأخلاق الكريمة والأنفس العالية فوجده حزينا كئيبا على غير ما يعهد من حاله قبل ذلك، فاستفهم منه عن دخيلة أمره فعرف أنه كان متزوجا من فتاة يحبها ويجلها ويفديها بنفسه وماله فلم تحفظ صنيعه ولم ترع عهده وأنها فرت منه إلى عشيق لها رقيق الحال وضيع النسب، فاجتهد الكاتب أن يلقى تلك الفتاة ليعرف منها سر فرارها من بيت زوجها فلقيها في منزل عشيقها فاعتذرت إليه عن فعلتها بأنها لا تحب زوجها؛ لأنه في الأربعين من عمره وهي لم تبلغ العشرين، وقالت إنها جرت في ذلك على حكم الشرائع الطبيعية وإن خالفت الشرائع الدينية؛ لأن الأولى عادلة والثانية ظالمة، وقالت: إن ما يسميه الناس بالزنا والخيانة هو في الحقيقة طهارة وأمانة؛ لأن أساسه الحب، وكل ما كان أساسه الحب فهو طاهر شريف، وإن كان في أعين الناس عيبا وعارا، وقالت: ما الخيانة ولا الجريمة ولا الغش ولا الخداع إلا أن تعاشر المرأة زوجا تكرهه معاشرتها من تحبه فيفترشها الأول كما يفترشها الثاني؛ لأنها لا تكون في حكم العقل ولا في نظر العدل زوجا له ما دامت لا تحبه ولا تألف عشرته، وقالت: لو أدرك الناس أسرار الديانات وأغراضها لعرفوا أنها متفقة في هذه المسألة مع الشرائع الطبيعية, وأنها ربما تعد المرأة في بيت زوجها زانية، وفي بيت عشيقها طارهة، إذا كانت تكره الأول وتحب الثاني.
هذا ملخص القصة على طولها وأحسبها قصة موضوعة على نحو ما يضع الكتاب القصص الخيالية لنشر رأي من الآراء أو تأييد مذهب من المذاهب؛ لأن الكاتب أعذر1 تلك الفتاة فيما فعلت, واقتنع بصحة أقوالها وصحة مذهبها وأعداها على زوجها2 وحكم لها عليه.
وسواء أكانت القصة حقيقية أم خيالية فالحق أقول: إن الكاتب أخطأ في وضعها, وما كنت أحسب إلا أن مذهب الإباحية1 قد مضى وانقضى بانقضاء العصور المظلمة حتى قرأت هذه القصة منشورة باللغة العربية بين الأمة العربية فنالني من الهم والحزن ما الله عالم به.
قرأنا ما كتب الكاتبون في سبيل المرأة الساقطة, وهي التي هفت في حياتها هفوة دفعها إليها دافع خداع أو سائق حاجة ثم ثاب إليها رشدها وهداها فقلنا لا بأس بغيرتهم على ذنب جسمته العادة وألبسته ثوبا أوسع من ثوبه، ولا بأس برحمتهم فتاة مذنبة تحاول الرجوع إلى ربها، والتوبة من ذنبها، ويأبى المجتمع البشري إلا أن يسددونها أبواب السماء المفتحة للقاتلين والمجرمين.
فأما وقد وصل الحد إلى تزيين الزنا للزانية وتهوين إثمه عليها وإغراء العفيفة الصالحة بالتمرد على زوجها والخروج من طاعته كلما دعاها إلى ذلك داع من الهوى فهذا ما لا يطاق احتماله، ولا يستطاع قبوله.
إن فتاة الرواية لم تهف في جريمتها فقط كما يهفو غيرها من النساء؛ لأنها مقيمة في منزل عشيقها من زمن بعيد, وقد عقدت عزمها على البقاء فيه ما دامت روحها باقية في جسدها، ولم يسقها إلى ذلك سائق شهوة بشرية إن صح أن تكون الشهوة البشرية عذرا يدفع مثلها إلى مثل ما صنعت؛ لأنها فرت من فراش زوجها، لا من وحشة خلوتها، ولا سائق جوع؛ لأنها كانت أرق النساء عيشا، وأروحهن بالا، بل كانت على حالة من الرفاهية والنعمة والتقلب في أعطاف العيش البارد لم تر مثلها من قبل ولا من بعد، إذن فهي امرأة مجرمة لا يمنحها العدل من الرحمة ما منح المرأة الساقطة.
إن كانت هذه الفتاة عفيفة طاهرة كما يزعم الكاتب فقد أخطأ علماء اللغة جميعا في وضع كلمة الفساد في معاجمهم؛ لأنها لا مسمى لها في هذا العالم عالم العفة والطهارة والخير والصلاح، ولا يمكن أن يكون المراد منها فتاة المواخير؛ لأنها لم تترك وراءها زوجا معذبا ناقما منكوبا ولم تكن راضية تمام الرضى عن نفسها, ولا مغتبطة بعيشها فتبلغ في حالها مبلغ "ورده الهاني".
كل الأزواج ذلك الرجل إلا قليلا، فإذا جاز لكل زوجة أن تفر من زوجها إلى عشيقها كلما وقع في نفسها الضجر من معاشرة الأول, وبرقت لها بارقة الأنس من بين ثنايا الثاني فويل لجميع الرجال من جميع النساء، وعلى النظام البيتي والرابطة الزوجية بعد اليوم ألف سلام.
أيها الكاتب: ليس في استطاعتي ولا في استطاعتك ولا في استطاعة أحد من الناس أن يقف دورة الفلك ويصد كر الغداة ومر العشى حتى لا يبلغ الأربعين من عمره فتراه زوجته غير أهل لمعاشرتها إذا علمت أن في الناس من هو أصغر منه سنا وأكثر رشاقة وأنضر شبابا.
إن الضجر والسآمة من الشيء المتكرر المتردد طبيعة من طبائع النوع الإنساني فهو لا يصبر على ثوب واحد أو طعام واحد أو عشير واحد، وقد علم الله سبحانه وتعالى ذلك منه, وعلم أن نظام الأسرة لا يتم إلا إذا بني على رجل وامرأة تدوم عشرتهما، ويطول ائتلافهما، فوضع قاعدة الزواج الثابت ليهدم بها قاعدة الحب المضطرب، وأمر الزوجين أن يعتبرا هذا الرباط رباطا مقدسا حتى يحول بينهما وبين رجوعهما إلى طبيعتهما, وذهابهما في أمر الزوجية مذهبهما في المطاعم والمشارب من حيث الميل لكل جديد، والشغف بكل غريب.
هذا هو سر الزواج وهذه حكمته، فمن أراد أن يجعل الحب قاعدة العشرة بدلا من الزواج فقد خالف إرادة الله وحاول أن يهدم ما بناه ليهدم بهدمه السعادة البيتية.
أي امرأة متزوجة بأجمل الرجال لا تحدث نفسها بالرغبة في استبداله بأجمل منه، وأي رجل متزوح بأجمل النساء لا يتمنى أن يكون في منزله أجمل منها, لولا هذا الرباط المقدس رباط الزوجية، فهو الذي يعالج أمثال هذه الأماني وتلك الهواجس, وهو الذي يعيد إلى النفوس النزاعة سكونها وقرارها.
لا بأس أن يتثبت الرجل قبل عقد الزواج من وجود الصفة المحبوبة لدية في المرأة التي يختارها لنفسه، ولا بأس أن تصنع المرأة صنيعه، ولكن لا على معنى أن يكون الحب الشهوي هو قاعدة الزواج يحيا بحياته، ويموت بموته، فالقلوب متقلبة والأهواء نزاعة، بل بمعنى أن يكون كل منهما لصاحبه صديقا، أكثر منه عشيقا، فالصداقة ينمو بالمودة غرسها، ويمتد ظلها، أما الحب فظل يتنقل، وحال تتحول.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)