المنشورات

في سبيل الإحسان:

الإحسان شيء جميل وأجمل منه أن يحل محله، ويصيب موضعه.
الإحسان في مصر كثير، ووصوله إلى مستحقه وصاحب الحاجة إليه قليل، فلو أضاف المحسن إلى إحسانه إصابة الموضع فيه لما سمع سامع في ظلمة الليل شكاة بائس ولا أنة محزون.
ليس الإحسان هو العطاء كما يظن عامة الناس، فالعطاء قد يكون نفاقا ورياء، وقد يكون أحبولة ينصبها المعطي لاصطياد النفوس وامتلاك الأعناق، وقد يكون رأس مال يتجر فيه صاحبه ليبذل قليلا ويربح كثيرا.
إنما الإحسان عاطفة كريمة من عواطف النفس تتألم لمناظر البؤس ومصارع الشقاء، فلو أن جميع ما يبذله الناس من المال ويسمونه إحسانا صادر عن تلك العاطفة الشريفة لما تجاوز محله ولا فارق موضعه.
فوضى الإحسان:
الإحسان في مصر فوضى لا نظام له، يناله من لا يستحقه ويحرم منه مستحقه، فلا بؤسا يرفع، ولا فقرا يدفع، فمثله كمثل السحاب الذي يقول فيه أبو العلاء:
ولو أن السحاب همى بعقل ... لما أروى مع النخل القتادا1
الإحسان في مصر أن يدخل صاحب المال ضريحا من أضرحة المقبورين فيضع في صندوق النذور قبضة من الفضة أو الذهب ربما يتناولها من هو أرغد منه عيشا وأنعم بالا، أو يهدي ما يسميه نذرا من نعم وشاء إلى دفين في قبره قد شغله عن أكل اللحوم والتفكه بها ذلك الدود الذي يأكل لحمه، والسوس الذي ينخر عظمه، وما أهدى شاته ولا بقرته لو يعلم إلا إلى "ديوان الأوقاف" وكان خيرا له أن يهديها إلى جاره الفقير الذي يبيت ليله طاويا يتشهى ظلفا2 يمسك رمقه، أو عرقوبا يطفئ لوعته.
وأعظم ما يتقرب به محسننا إلى الله ويحسب أنه بلغ من البر والمعروف غايتيهما أن ينفق بضعة آلاف من الدنانير في بناء مسجد للصلاة في بلد مملوء بالمساجد، حافل بالمعابد، وفي البلد كثير من البائسين وذوي الحاجات، ينشدون مواطن الصلات، لا أماكن الصلوات، أو يبني بنية ضخمة فخمة مرفوعة القباب، فسيحة الرحاب، مموهة الجوانب والأركان، مذهبة السقوف والجدران، يسميها سبيلا، ولا يهولنك هذا الاسم الضخم فكل ما في الأمر أن السبيل مكان يشتمل على حوض من الماء ربما لا يكون بينه وبين ماء النهر إلا بضع خطوات، على أن الماء كالهواء، ملء الأرض والسماء، أو يقف الرقاع الواسعة من الأرض لتنفق غلتها على أقوام من ذوي البطالة والجهالة نظير انقطاعهم لتلاوة الآيات، وترديد الصلوات، وقراءة الأحزاب والأوراد، وهو يحسب أنه أحسن إليهم، ولو عرف موضع الإحسان لأحسن إليهم بقطع هذا الإحسان عنهم علهم يتعلمون صناعة أو مهنة يرتزقون منها رزقا شريفا، فإن كان يظن أنه يعمل في ذلك عملا يقربه إلى الله فليعلم أن الله تعالى أجل من أن يعبأ بعبادة قوم يتخذون عبادته سلما إلى طعام يطعمونه، أو درهم يتناولونه، أو يفتح أبواب منزله لهؤلاء المحتالين المتلصصين الذين يسمونهم مشايخ الطرق، ولو أنصفوهم لسموهم قطاع الطرق، ولا فرق بين الفريقين إلا أن هؤلاء يتسلحون بالبنادق والعصي، وأولئك يتسلحون بالسبح والمساويك، ثم يسقطون على المنازل سقوط الجراد على المزارع فلا يتركون صادحا ولا باغما، ولا خفا ولا حافرا، ولا شيئا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها إلا أتوا عليه.
أسوأ الإحسان:
لم أر مالا أضيع ولا عملا أخيب ولا إحسانا أسوأ من الإحسان إلى هؤلاء المتسولين الذين يطوفون الأرض ويقلبونها ظهرا على عقب ويجثمون في مفارق الطرق وزوايا الدروب وعلى أبواب الأضرحة والمزارات يصمون الأسماع بصريخهم، ويقذون النواظر بمناظرهم المستبشعة، ويزاحمون بمناكبهم الفارس والراجل والجالس والقائم، فلو أن نجما هوى إلى الأرض لهووا على أثره, أو طائرا طار إلى الجو لكانوا قوادمه وخوافيه.
وإن شئت أن تعرف المتسول معرفة حقيقية لتعرف هل يستحق عطفك وحنانك عليه, وهل ما تسديه إليه من المعروف تسديه إلى صاحب حاجة, فاعلم أنه في الأعم الأغلب من أحواله رجل لا زوجة له ولا ولد ينفق عليهما ولا مسكن عنده يحتاج إلى مؤن ومرافق ولا شهوة له في مطعم أو مشرب أو ملبس حتى لو علم أن الانقطاع عن ذلك الخسيس من الطعام والقذر من الشراب لا يقعده عن السعي في سبيله لانقطع عنه، وهو لو شاء أن يتزوج أو يتخذ له مأوى يأوي إليه لفعل, ولوجد في حرفته متسعا لذلك، ولكنه الحرص قد أفسد قلبه وأمات نفسه، فهو يتوسل بأنواع الحيل وصنوف الكيد ليجمع مالا لا فائدة له من جمعه ولا نية له في إصلاح شأن نفسه به إذا اجتمع عنده منه ما يقوم له بذلك, بل ليدفنه في باطن الأرض حتى يدفن معه, أو لينظمه في سلك مرقعته حتى يرثه الغاسل من بعده. ولقد يبلغ به الحرص الدنيء والشره السافل أن يحمل في سبيل المال ما لا يستطيع مجاهد أن يحمل مثله في سبيل الله فيتعمد قطع يده أو ساقه أو إتلاف عينيه أو إحداهما ليستعطف القلوب عليه، وكثيرا ما يحسد صاحبه إذا رآه أفظع منه شكلا أو أكثر تشويها كما يحكي أن شحاذا مقطوع الساق قد وضع مكانها أخرى من الخشب تقابل مع آخر كفيف البصر فتنافسا في مصيبتيهما أيتهما أقذى للأعين وأوقع في النفس وأجلب للرحمة، فقال الأول للثاني: لقد وهبك الله نعمة العمى ومنحك بسلب ناظريك أفضل حبالة لاصطياد القلوب، واستفراغ الجيوب، فقال له صاحبه: وأين يبلغ العمى من هذه الرجل الضخمة الثقيلة التي تجلب في كل عام وزنها ذهبا.
إن أكبر جريمة يجرمها الإنسان إلى الإنسانية أن يساعد هؤلاء المتسولين بماله على الاستمرار في هذه الخطة الدنيئة فيغري كل من شعر في نفسه بالميل إلى البطالة وإيثار الراحة بالسعي على آثارهم، والاحتراف بحرفتهم، فكأنه قطع من جسم الإنسانية عضوا كاملا، لو لم يقطعه لكان عضوا عاملا، وكأنه هدم بعمله هذا جميع تلك المساعي الشريفة التي بذلها الأنبياء والحكماء قرونا عديدة لإصلاح المجتمع الإنساني وتهذيب أخلاقه وتخليصه من آفات الجمود والخمول، فهل رأيت معروفا أقبح من هذا المعروف وإحسانا أسوأ من هذا الإحسان.
تنظيم الاحسان:
ليست كمية المال التي ينفقها المحسنون في سبيل الإحسان مما يستهان به فلو قال قائل إنها تبلغ في مصر وحدها كل عام مليونا من الذهب لما أخطأ التقدير.
سألت رجلا من وجوه الريف المعروفين بالبر والإحسان عن كمية ما ينفقه كل عام في هذا السبيل فأطلعني على جريدة حسابه فرأيتها هكذا.
جنية
10 ولائم لمشايخ الطرق.
60 ليالي في مولد البيومي والعفيفي. 
72 مرتبات قراءة القرآن والدلائل والصلوات في مسجده ومنزله.
30 هبات كبيرة للطائفين في البلاد الذين يستجدون باسم المجد القديم والشرف الداثر.
18 صدقات للمتسولين على تقدير خمسة قروش يوميا تقريبا.
10 توضع في صناديق الأضرحة.
40 ثمن خبز ولحم وملابس تفرق في المواسم الدينية.
240 المجموع
فهذه أربعون ومائتا جنية ينفقها في سبيل الإحسان رجل واحد من متوسطي الثروة في عام واحد، وفي مصر مئات مثله وعشرات يزيدون عليه وآلاف يقلون عنه، فلا غرابة في أن يقدر هذا النوع من الإحسان بمليون جنية ينفقه منفقوه على غير شيء سوى إغراء الكسلان بكسله، وحمل العامل على ترك عمله، وفي اعتقادي لو أن هذا المقدار حل من الإحسان محله، وأصاب منه موضعه، وأنفق في سبيل الخيرات النافعة ووجوه البر الحقيقية لارتقى بالأمة المصرية إلى ذروة الكمال، ولكان له الأثر الجليل في وصولها إلى ما تتطلع إليه من هناء العيش وسعادة الحياة.
لذلك أقترح في تنظيم الإحسان اقتراحا نافعا, وأدعو الكاتبين الذين لا غرض لهم من وراء الكتابات السياسية ولا غاية لهم من الاشتغال بإثارة الخواطر وتهييجها وإغراء بعض الناس ببعض أن يساعدوني بأقلامهم على تحقيق ما أتمناه في هذا المقترح المفيد.
أقترح أن يقوم جماعة من سراة الأمة ووجوهها وأصحاب الرأي والبصيرة فيها بتأليف مجتمع في القاهرة يسمى "مجتمع الإحسان" ويكون له في كل مدينة من مدائن الريف فرع تابع له.
أما أعماله التي أحب أن يقوم بها بالاتحاد مع فروعه فهي ثلاثة:
أ- استخدام فريق من مهرة الكتاب وفصحاء الخطباء يقومون بتعليم أفراد الأمة بكل واسطة من وسائط النشر, وبكل وسيلة من وسائل التأثير معنى الإحسان، وما هو الغرض منه، وما هي أفضل وجوهه، وأي أنواعه أجمع لخيري الدنيا والأخرة.
ب- بذل الجهد في حمل الناس على اعتبار مجتمع الإحسان هذا بيت مال لهم أو وكالة عامة عنهم تتولى جمع الصدقات منهم وتوزيعها على مستحقيها، وحسبها أن تأخذ من كل فرد في كل عام مجموع ما يحسن به عادة في ذلك العام, فلا يكون بعد ذلك مأخوذا بشيء من الإحسان أمام ربه, وأمام أمته أكثر مما قدمه لهذا المجتمع.
جـ- إنفاق ما يجتمع من المال على تربية اليتامى الذين لا كاسب لهم, والقيام بأود العاجزين والعاجزات عن الكسب وتفقد شئون الذين نكبهم الدهر وتنكر لهم بعد العز والنعمة, وصيانة ماء وجوههم أن تراق على تراب الأعتاب, والإنفاق على تعليم من يتوسم فيهم الذكاء والفطنه ويرجي أن تنتفع بهم الأمة في مستقبلها من أبناء الفقراء، إلى أمثال هذه الأعمال الخيرية الشريفة التي لا يتحقق الإحسان بدونها، ولا ينصرف معناه إلا إليها.
أنا أعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن من يخطو الخطوة الأولى في سبيل هذا العمل الجليل ومن يضع الحجر الأول في بناء مجتمع الإحسان، هو أفضل عامل في الوجود وأشرف إنسان.












 مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید