المنشورات

أدب المناظرة:

أنا لا أقول إلا ما أعتقد ولا أعتقد إلا ما أسمع صداه من جوانب نفسي فربما خالفت الناس أو بعض الناس في أشياء يعلمون منها غير ما أعلم، ومعذرتي إليهم في ذلك أن ألحق أولى بالمجاملة منهم وأن في رأسي عقلا أجله عن أن أنزل به إلى أن يكون سيقة1 للعقول وريشة في مهاب الأغراض والأهواء.
فهل يجمل بعد ذلك بأحد من الناس أن يرميني بجارحة من القول أو صاعقة من الغضب؛ لأني خالفت رأيه أو ذهبت غير مذهبه أو أن يكون له من الحق في حملي على مذهبه أكثر مما يكون لي من الحق في حمله على مذهبي.
لا بأس أن يؤيد الإنسان مذهبه بالحجة والبرهان، ولا بأس أن ينقض أدلة خصمه ويزيفها بما يعتقد أنه مبطل لها، ولا ملامة عليه في أن يتذرع بكل ما يعرف من الوسائل إلى نشر الحقيقة التي يعتقدها إلا وسيلة واحدة لا أحبها له ولا أعتقد أنها تنفعه أو تغني عنه شيئا، وهي وسيلة الشتم والسباب.
إن لإخلاص المتكلم تأثيرا عظيما في قوة حجته وحلول كلامه المحل الأعظم من القلوب والأفهام، والشاتم يعلم الناس جميعا أنه غير مخلص فيما يقول، فعبثا يحاول أن يحمل الناس على رأيه أو يقنعهم بصدقه وإن كان أصدق الصادقين.
أتدري لم يسب الإنسان مناظره؛ لأنه جاهل وعاجز معا، أما جهله؛ فلأنه يذهب في واد غير وادي مناظره وهو يظن أنه في واديه؛ ولأنه ينتقل من موضوع المناظرة إلى النظر في شئون المناظر وأطواره كأن كل مبحث عنده مبحث "فسيولوجي"، وأما عجزه؛ فلأنه لو عرف إلى مناظره سبيلا غير هذا السبيل لسلكه وكفى نفسه مئونة ازدراء الناس إياه, وحماها من الدخول في مأزق هو فيه من الخاسرين محقا كان أم مبطلا.
لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون الغرض من المناظرة شيئا غير خدمة الحقيقة وتأييدها، وأحسب أن لو سلك الكتاب هذا المسلك في مباحثهم لاتفقوا على مسائل كثيرة هم لا يزالون مختلفين فيها، وما اختلفوا فيها؛ إلا لأنهم فيما بينهم مختلفون، يسمع أحدهم الكلمة من صاحبه ويعتقد أنها كلمة حق لا ريب فيها, ولكنه يبغضه فيبغض الحق من أجله فينهض للرد عليه بحجج
واهية وأساليب ضعيفة وإن كان هو قويا في ذاته؛ لأن القلم لا يقوى إلا إذا استمد من القلب فإذا عي بالحجج والبراهين لجأ إلى المراوغة والمهاترة، فيقول لمناظرة مثلا إنك رجل جاهل لا يعتد بآرائك أو إنك رجل مضطرب الرأي لا ثبات لك؛ لأنك تقول اليوم غير ما قلت بالأمس، وهنالك يقول له الناس رويدا لا تخلط في كلامك، ولا تراوغ في مناظرتك، ولا شأن لك بعلم صاحبك أو جهله، فإنه يقول شيئا فإن كان صحيحا فسلم به أو باطلا فبين لنا أوجه بطلانه، وهبه قولا لا تعلم قائله، ولا شأن لك باضطراب القائل وثباته، فربما كان بالأمس على رأي تبين له خطؤه اليوم، والمرء يخطئ مرة ويصيب، فإذا ضاق بمناظره وبالناس ذرعا فر إلى أدنى الوسائل وأضعفها فسب مناظره وشتمه وذهب في التمثيل به كل مذهب فيسجل على نفسه الفرار من تلك الحرب والانخذال في ذلك الميدان.
على أن أكثر الناس متفقون على ما يظنون أنهم مختلفون فيه، فإن لكل شيء جهتين، جهة مدح وجهه ذم، فأما أن تتساويا أو تكبر إحداهما الأخرى، فإن كان الأول فلا معنى للاختلاف؛ وإن كان الثاني وجب على المختلفين أن يعترف كل منهما لصاحبه ببعض الحق لا أن يكون كل منهما من سلسلة الخلاف في طرفها.
كان يقع بين ملك من الملوك ووزيره خلاف في مسائل كثيرة حتى يشتد النزاع, وحتى لا يلين أحدهما لصاحبه في طرف مما يخالفه فيه، فحضر حوارهما أحد الحكماء في ليلة وهما يتناظران في المرأة، يعلو بها الملك إلى مصاف الملائكة، ويهبط بها الوزير إلى منزلة الشياطين، ويسرد كل منهما على مذهبه أدلته، فلما علا صوتهما واشتد لجاجهما خرج ذلك الحكيم وغاب عن المجلس ساعة, ثم عاد وبين أثوابه لوح على أحد وجهيه صورة فتاة حسناء وعلى الآخر صورة عجوز شوهاء، فقطع عليهما حديثهما وقال لهما: أحب أن أعرض عليكما هذه الصورة، ليعطيني كل منكما رأيه فيها، ثم عرض على الملك صورة الفتاة الحسناء فامتدحها ورجع إلى مكان الوزير وقد قلب اللوح خلسة من حيث لا يشعر واحد منهما بما يفعل وعرض عليه صورة العجوز الشمطاء فاستعاذ بالله من رؤيتها وأخذ يذمها ذما قبيحا، فهاج غيظ الملك على الوزير وأخذ يرميه بالجهل وفساد الذوق وقد ظن أنه يذم الصورة التي رآها هو, فلما عاد إلى مثل ما كانا عليه من الخلاف الشديد تعرض لهما الحكيم وأراهما اللوح من جهتيه فسكن ثائرهما وضحكا كثيرا، ثم قال لهما: هذا هو الذي أنتم فيه منذ الليلة، وما أحضرت إليكم هذا اللوح إلا لأضربه لكما مثلا لتعلما أنكما متفقان في جميع ما كنتما تختلفان فيه لو أن كلا منكما ينظر إلى المسائل المختلف فيها من جهتيها، فشكرا له همته وأثنيا على فضله وحكمته، وانتفعا بحيلته انتفاعا كثيرا حتى ما كانا يختلفان بعد ذلك إلا قليلا.















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید