المنشورات

الجزع:

يا صاحب النظرات
لي صديق سقط في امتحان "البكالوريا" هذه السنة فأثر فيه ذلك السقوط تأثيرا كبيرا, فهو لا ينفك باكيا متألما حتى أصبحنا نخاف عليه الجنون، وكلما عزيناه عن مصابه يقول: كيف أستطيع معاشرة إخواني ومعارفي, وكيف أستطيع مقابلة والدي وأهلي؟ فهل لك أيها السيد أن تعالج نفسه بنظرة من نظراتك التي طالما عالجت بها القلوب المحزونين؟
حقوقي
ليست المسألة مسألة صديقك وحده بل مسألة الساقطين أجمعين، فإن المرء لا يكاد يتناول نظره منهم في هذه الأيام إلا وجوها قد نسج الحزن عليها غبرة سوداء، وجفونا تحار فيها مدامعها حيرة الزئبق الرجراج، حتى ليخيل إليك أن نازلة من نوازل القضاء قد نزلت بهم فزلزلت أقدامهم، أو فاجعة من فواجع الدهر قد دارت عليهم دائرتها فأثكلتهم ذخائر نفوسهم، وجواهر عقولهم، وأقامت بينهم وبين سعادة العيش وهنائه سدا لا تنفذه المعاول، ولا تنال من أيده الزلازل.
خفض عليك قليلا أيها الطالب فالأمر أهون مما تظن وأصغر مما تقدر، واعلم وما أحسبك إلا عالما أنك لم تسقط من قمة جبل شامخ إلى سفح متحجر فتبكي على شظية طارت من شظايا رأسك، أو دم مسفوح تدفق من بين لحييك.
إنك قد سعيت إلى غرض فإن كنت هيأت له أسبابه، وأعددت له عدته، وبذلت له من ذات نفسك ما يبذل مثله الباذلون في مثله، فقد أعذرت إلى الله وإلى الناس وإلى نفسك, فحري بك أن لا تحزن على مصاب لم يكن أثرا من آثار يديك، ولا جناية من جنايات نفسك عليك، وإن كنت قصرت في تلمس أسبابه، ومشيت في سبيله مشية الظالع المتقاعس، فما حزنك على فوات غرض كان جديرا بك أن تترقب فواته قبل وقت فواته؟ وما بكاؤك على مصاب كان خيرا لك أن تعلم وقوعه قبل يوم وقوعه؟ ما لك تبكي بكاء الواثق بمواتاة الأيام ومطاوعة الأقدار, فهل تستطيع أن تبرز لنا صورة العهد الذي أخذته على الدهر أن يكون لك كما تحب وتشتهي وعلى الفلك أن لا يدور إلا بسعدك، ولا يجري إلا بجدك، وعلى القلم أن لا يكتب في لوحه إلا ما دللته عليه، وأوحيت به إليه.
لا تجعل لليأس سبيلا إلى نفسك, فلعل الأمل يعوض عليك في غدك ما خسرت في أمسك، وامض لشأنك ولا تلتفت إلى ما وراءك، فإن تم لك في عامك المقبل من طلبتك ما أردت فذاك، أو لا فما فقدت إذ فقدت الا ورقة كان كل ما تستفيده منها أن تشتري بها قيدا لرجلك، وغلا لعنقك، ثم ترتبط في سجن من سجون الحكومة بجانب رئيس من الرؤساء المدلين بأنفسهم يسومك من الذل والخسف ما لا يحتمله الأسراء في سجون الآسرين.
إن اعتدادك بهذه الورقة هذا الاعتداد وإكبارك إياها هذا الإكبار دليل على أنك كنت تريد أن تجعلها منتهى أملك وغاية همتك، وأنك لا ترى بعدها مزيدا من الكمال لمستزيد، فإن صدقت فراستي فيك فاعلم أن الله قد خار لك في هذا المصير وساق إليك من الخير ما لا تعرف السبيل إليه، إنه ما خيب رجاءك في هذا الكمال الموهوم إلا لتطلب لنفسك كمالا معلوما، وما صرف عنك هذه الشهادة المكتوبة في صفحات الأوراق إلا لتسعى وراء الشهادة المكتوبة في صفحات القلوب.
إن كنت تبكي على الشرف فباب الشرف مفتوح بين يديك لا شأن للحكومة فيه ولا حاجب لها عليه، وما هو إلا أن تجد في التزيد من العلم والمعرفة واستكمال ما ينقصك من الفضائل النفسية, فإذا أنت شريف في نفسك وفي نفس الخاصة من الناس, وإذا أنت في منزلة يحسدك عليها كثير من أرباب الشهادات والمناصب، ولا حيا الله شرفا يحيا بورقة ويموت بأخرى، ولا مجدا تأتى به قعدة وتذهب به قومة، وإن كنت تبكي على العيش ففي أي كتاب من كتب الله المنزلة قرأت أن أرزاقه وقف على الحاكمين، وحبائس على المستخدمين، وأنه لا ينفق درهما واحدا من خزائنه إلا إذا جاءته "حوالة" بتوقيع أمير، أو إشارة وزير.
أيها الطالب: قل لأبيك وأخيك وأهلك وأصدقائك ومعارفك بلا خجل ولا استحياء أن الذي وهبني عقلي يسلبنيه، وأن الذي صور لي أعضائي لم يحل بيني وبين الذهاب بها إلى ما خلقت له، وأن الذي خلقني سوف يهديني فهو الرزاق ذو القوة المتين.

















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید