المنشورات

الاتحاد:

ألمت بي كربة من تلك الكرب التي لا تزال تختلف إلي كما تختلف إلى المحموم نوباته حينا بعد حين.
كربة ما كفاها أنها حبست قلمي عن الكتابة وفكري عن الحركة حتى حالت بيني وبين مطالعة الصحف والإشراف على الأمة من نوافذها برهة من الزمان، ثم أدركتني رحمة الله فاستفقت فإذا صخب ولجب، وضجيج وضوضاء، وأصوات ملء الفضاء، وكظة الأرض والسماء، فما هو إلا سؤال السائل وإجابة المجيب حتى عرفت كل شيء.
عرفت أن الأمة المصرية في موقف من أحرج مواقفها، ومسلك من أضل مسالكها، وأنها بين ماضغي الأسد وفوق روق الظبي، وأن حوادث الدهر وعاديات الأيام قد ملكت عليها سبيلها والتفت حولها التفاف الحية بالعنق وأحاطت بها إحاطة الجامعة باليد والقيد بالرجل، فمثلها كمثل رجل أحاطت النار ببيته من كل جانب وعلقت بسقوفه وجدرانه، ونوافذه وأبوابه، فما هو بناج إن أراد نجاء، ولا بباق إن أراد بقاء، بل مثلها كمثل آخر ضل به سبيله، واشتبهت عليه مسالكه، في ليلة داجية مدلهمة قد غابت كواكبها، واستسرت نجومها، فوقف وقفة الحائر المضطرب يسمع العواء والزئير، والفحيح والصفير، فلا يعلم أيقدم فيزداد ضلالا، أم يحجم فلا يجد مجالا، أم يقف فيصبح فريسة المفترس ولقمة المزدرد.
عرفت أن الأمة المصرية أصبحت لا تدري ما تريد، ولا ما يراد بها، ولا تجد من يرد إليها رشدها، ولا من يمد يده إليها، ليأخذ بيدها في هذا الظلام الحالك، والليل المدلهم.
كثر رؤساؤها، وتعددت قادتها، وتنوعت مذاهبهم، واختلفت طرقهم، واستحكمت حلقات البأس بينهم فلم يتفقوا في شأن من شئون هذه الأمة على شيء إلا على وضع حبل متين في عنقها, قد أخذ كل منهم بطرف من طرفيه يجذبه إليه جذبة المستقتل المستميت حتى بح صوتها، وضاق صدرها، وتعلقت أنفاسها، وجحظت مقلتاها، وجف ريقها، وتحجر لسانها، وهم ينظرون إليها نظرة المداعب اللاعب، ولا أحسب أنهم تاركوها حتى يفرقوا بين الرأس والجسد فراقا لا لقاء بينهما من بعده.
لو بعث أرسطو واضع علم المنطق من قبره وأراد أن يضع لهذه الأمة حدا تاما جامعا مانعا لما استطاع إلا أن يضع لها هذا الحد "الأمة المصرية هي التي تصدق كل ما يقال"، ولقد عرف منها كل أولئك اللاعبين بها والعابثين بميولها وأهوائها هذا الخلق وتلك الطبيعة, وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد فنفذوا من تلك الآذان اللينة إلى تلك القلوب الطيبة, فما بلغوها حتى أخذوا يلعبون بها لعب الصبي بكرته، ويتلقفونها واحدا بعد واحد، فهي لا ترتفع حتى تتناولها الصوالجة، ولا تستقر حتى تدفعها الأقدام، كل يزعم أنه صديقها، وكل يزعم أنه يدلها على عدوها، والله يعلم أنهم أعداؤها قبل الأعداء، وخصومها أكثر من الخصماء، وأن السماء بصواعقها ورجومها، والأرض بزلزالها وبراكينها، أعجز من أن تبلغ منها ما بلغوه، أو تجني عليها ما جنوه.
فيأيها الرؤساء والزعماء: أي خير تطلبون لهذه الأمة بعد أن فرقتموها شيعا، وصيرتموها أحزابا، وقطعتم أوصالها ووشائجها وألقيتم العداوة والبغضاء بين الرجل وولده، والرجل وأخيه، والجار وجاره، والصديق وصديقه، حتى ركب كل فرد من أفرادها رأسه ومضى لسبيله، وحتى تناكرت الوجوه، واستوحشت النفوس، وأصبحت ساحة البلد كساحة الحرب، لا ترى فيها إلا نابا يقرع نابا، وعينا تنظر شزرا وصدرا يغلي حقدا، وقلبا يخفق خوفا وحذرا.
كل غرض تزعمون أنكم تسعون إليه لإبلاغ هذه الأمة أمنيتها من السعادة والهناء، لا قيمة له بعد ما أضعتم عليها غرضها من الاتحاد والائتلاف، بل لا سبيل لها إلى بلوغ غرض من أغراضها إلا إذا كان الاتحاد قائدها إليه، ودليلها عليه.
ليس هذا التنافر بين أفراد الأمة والتفرق بين جماعاتها حالة من الحالات الطبيعية التي لا بد منها، ولا مناص عنها، أو حادثة من الحوادث السماوية التي تحتملها النفوس، وتسكن إليها القلوب، وتطرف عليها العيون إجلالا للسماء، ورضاء للقضاء، وإنما هي صنعة أيديكم، وجناية أقلامكم، ولو أنكم تركتم هذه الأمة وشأنها، وخليتم بينها وبين فطرتها، ما كان يخطر لها ببال أن تتعادى وأن تتباغض ولا كان يوجد بين أفرادها من تحدثه نفسه بمقاطعة أخيه في سبيل صحيفة من الصحف أو حزب من الأحزاب.
عجز الاختلاف الديني بين عنصري الأمة المصرية عن أن يفرق بين أوصالها، وأن يحل جامعتها، وعجز الاختلاف الجنسي أن يؤثر في جامعتها تأثير أمثاله في أمثالها من الجوامع الأخرى، فكان حريا أن يعجز الاختلاف السياسي، عما عجز عنه الاختلاف الديني والجنسي، لولا أنكم كبرتم ما صغر من هذا الاختلاف وعظمتم منه ما حقر، وألححتم عليه إلحاحا شديدا حتى حولتموه إلى فتنة شنعاء، وغارة شعواء.
أنا لا أطلب منكم رحمة بهذه الأمة ولا شفقة عليها، فإن قلوبا مثل قلوبكم التي تنطوي عليها جوانحكم أقسى من أن ينفذ فيها سيف الضارب، أو قلم الكاتب، وإنما أريد أن أحدث الأمة المصرية بكلمة لا أريد منها أن تأخذها مني عفوا, ولا أن تسلم بها قبل إنعام نظرها فيها، وعرضها على عقلها، فذلك ما لا أحبه لها، بل ذلك ما أنقمه منها.
أيها المصريون، إني لأكتب إليكم كلمتي هذه وليس على وجه الأرض ولا تحت أديم السماء أمة أحب إلي منكم، وحسبكم من ذلك الحب أني أسمع بالكارثة تحل بكم، والنازلة تنال منكم، فيشغلني من أمركم ما لا يشغلني من أمر نفسي، وتجود عيني في سبيلكم بما لا تجود بأكثر منه في أحرج مواقفها، وأصعب مواطنها.
بهذا القلم الذي يستمد مداده من هذا القلب المخلص إليكم أدعوكم إلى الاتحاد والائتلاف وأن تتبايعوا بين يدي الله والوطن على الحب والود والصفاء والإخلاص, وأن لا تجعلوا لهؤلاء المفسدين منفذا ينفذون منه إلى قلوبكم، فإن طاف بكم طائف من شياطينهم فأعرضوا عنه وامضوا في سبيلكم، واحذروا أن تكونوا سيقة لرئيس أو لعبة في يد زعيم, وليكن كل منكم زعيم نفسه، ومسترشد قلبه، فنفوسكم أرحم بكم، وقلوبكم أصدق في نصيحتكم، فإن فعلتم ذلك نجوتم من ذل الانقياد، وسلكتم سبيل الرشاد، وأصبحتم وإذا أنتم أمة واحدة ترى رأيا واحدا وتحس إحساسا واحدا.
واعلموا أن ما بينكم اليوم من الاختلاف في الرأي والاضطراب في المذهب إنما هو وهم من الأوهام الكاذبة، وخيال من الخيالات الباطلة، ولو رجعتم إلى أنفسكم وأصغيتم إلى أصوات قلوبكم، لتبين لكم أنه لا يوجد فرد من أفرادكم إلا وهو أحرص من أخيه على حب الوطن وإرادة الخير له.
سدد الله طريقكم، وأنار لكم سبيلكم، وأفاض عليكم من رحمته وإحسانه ما يفرج كربتكم، ويكشف غمتكم والسلام.















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید