المنشورات

السريرة:

لو كشف للإنسان عن سريرة الإنسان لرأى منها ما يرى من غرائب هذا الكون وعجائبه أعمى أدركته رحمة الله بعد طول محنته فارتد بصيرا.
تتراءى لك السريرة في ظاهرها كأنها أديم السماء، أو صفحة الماء، فإن بدا لك أن تكتنه باطنها فإنك غير بالغ من ذلك مأربك إلا إذا استطعت أن تخترق السماء فترى ما وراءها من بدائع الكائنات، وتغوص في أعماق الماء فتشاهد ما في باطنه من عجائب المخلوقات.
يعجز المرء عن رؤية الهباء فيتريث ريثما تمج الشمس لعابها من نافذة غرفته فإذا هو مائج وضاء يروح ويغدو رواح السانحات، وغدو البارحات، ويعجز عن رؤية الجراثيم فيستعين عليها بمنظار يصورها في نظره تصويرا يخيل إليه أنه يكاد يلمسها بيمينه، ويعجز عن اكتناه السريرة فلا يجد إلى الوصول إليها سبيلا.
وقف آدم أمام باب السريرة يوم الشجرة يعالج فتحه فاستعصى عليه، ثم وقف بنوه من بعده موقفه فعجزوا عجزه، فلج بهم الشوق إليها لجاجا طار بعقولهم، وذهب بألبابهم، فتراموا على أقدام المنجمين والعرافين لثما وتقبيلا، وابتدروا النصب والتماثيل ركوعا وسجودا، وهاموا بزاجرات الطير والضوارب بالحصى هيام الإبل العطاش بمنازل الماء يطلبون ما وراء السريرة, والسريرة كنز مرصود لا تنجع فيه النفثات، ولا تجدي معه العزائم والرقي.
إنك لترى الرجل يتلألأ جبينه تلألؤ الكوكب في جنح ليل مبرد، ويفتر ثغره عن الأنوار، افترار الأكمام عن الأزهار، فتحسده على نعمته وسعادته، وتتمنى أن لو منحك الله ما منحه من هناء ورغد، وإن بين جنبيه لو تعلم هما يعتلج، وقلبا يدب فيه اليأس دبيب الآجال في الأعمار، وكبدا مقروحة لو عرضها في سوق الهموم والأحزان، ما وجد من يبتاعها منه بأبخس الأثمان.
وإنك لترى الصديق فيعجبك منه حديثه الحلو وثغره المبتسم، ويروقك من وده كلفه بك، وإعظامه لك، وإعجابه بشمائلك ومحاسنك، وتشيعه لآرائك ومذاهبك، ولو كشف لك من نفسه ما كشف له منها لوددت أن لو استطعت أن تبتاع أقدام السليك1 بجميع ما تملك يمينك ففرت من وجهه فرارك من وجه الأسود السالخ1 ووددت بجدع الأنف أن لا يصافح وجهك وجهه من بعدها حتى في جنة النعيم.
لولا ما أسدل الله دون السرائر من الحجب لبدلت الأرض غير الأرض، وكان للكون نظام غير هذا النظام، وللتاريخ صفحات غير هذه الصفحات.
لو علم الجند أنهم لا يحاربون إلا ليضعوا "نيشانا" في صدر القائد، أو جوهرة في تاج الملك، وأنهم كثيرا ما يكونون مخدوعين في وقائعهم ومواقفهم بأشراك الوطنية وحبائل الدين، لما دالت الدول ولا انتقلت التيجان، ولضعف ظهر الأرض عن حمل ما فوقه من بني الإنسان، ولو علم جهلة المتدينين أن رؤساء الأديان كثيرا ما يشترون عقولهم وأموالهم بالقليل التافة من هذه المدهشات الدينية، والأحلام النفسانية، ويملئون قلوبهم بالمخاوف والمزعجات ليبيعوهم الأمن والسلامة بثمن غال لضعفت أصوات النواقيس، وقصرت قامات المنائر، ولهلك أرباب الطيالس والقلانس جوعا وسغبا، ولأصبحت حبات السبح أكسد في سوق الأديان من بعر النوق في سوق الأنعام، ولو علم الابن أن أباه يحبه لما يرجوه من منفعته في شيخوخته، وأنه لا يعجب إلا بنفسه في إعجابه وثنائه عليه، ولا يفخر إلا بقوة عقله وحسن تدبيره في فخره بذكائه ونبوغه، لضعفت صلة الود بينه وبينه، ولما كانت بين حلقات الأنساب هذه الوشائج وتلك الأواصر، ولو علمت الزوجة أن زوجها يحب منها جسمها أكثر مما يحب نفسها، وأنه يتربص بها الدوائر ويعد ليومها الساعات والأيام، لما وثقت بوده، ولا اطمأنت لعهده، ولما كان للمنازل سقوف تظل الأسرة والمهاد.

















 مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید