المنشورات

العلماء والجهلاء:

لا تحسبن أن الفلسفة الاصطلاحية مطلب من المطالب التي لا ترام، أو أن بين من نسميهم العلماء ومن نسميهم الجهلاء ذلك الفرق العظيم الذي يتصوره الناس عند ما يريدون التفريق بينهما، وإنزالهما منازلهما، فالعلماء والجهلاء إن دققت النظر سواء، لا فرق بينهما إلا أن هؤلاء يعلمون المعلومات منظمة، وأولئك يعلمونها مبعثرة، وأن هؤلاء يحسنون البيان عنها وأولئك لا يبينون.
ومن نظر إلى البصائر نظرا ثاقبا نافذا وجد أن المعاني الصحيحة والقضايا الكونية المتعلقة بالخير والشر، والنفع والضر، والمسائل المنوطة بالإنسان في حياتيه المادية والمعنوية يشترك في العلم بها الناس جميعا عامتهم وخاصتهم، كبارهم وصغارهم، من نشأ منهم تحت سقوف الجامعات، ومن عاش تحت سقوف السموات؛ لأن العلم ينبوع يفور من الداخل، لا سيل يتدفق من الخارج؛ ولأن المعلومات كامنة في النفوس كمون النار في الزند والقوة في المادة، وما وظيفة التعليم إلا استثارتها من مكامنها، وبعثها من مراقدها.
وآية ذلك أنك لا تجد مثلا من أمثال العلماء التي يفخرون بها ويعدونها مظهر حكمتهم، وآية فلسفتهم، إلا وترى في ألسنة العامة وشوارد أقوالها وأمثالها ما يرادفها ويشاكلها، كما أنك لا تجد قاعدة من قواعد الحكمة ولا قضية من قضايا الآداب والأخلاق التي نعدها من ذخائر الأسفار ونفائس الأعلاق إلا وهي ملقاة تحت أقدام العامة، ومذالة بين أيدي الجاهلين والأميين.
وعندي أنه لولا عجز العامة عن بيان ما يجول في خواطرهم ويهجس في ضمائرهم من المعلومات على صورة مرتبة منظمة لما تخيل إليهم أنهم يسمعون من الخاصة كلاما عجيبا، أو معنى غريبا.
وليست هذه الغبطة التي نراها تعلق بنفوسهم عندما يتلقون أحاديث الخاصة من أجل أنهم علموا ما لم يكونوا يعلمون، أو أدركوا ما لا عهد لهم به من قبل؛ بل لأنهم عثروا على من يترجم عن أفكارهم، ويجمع لهم شمل المعاني المبعثرة في أنحاء أدمغتهم؛ ولأنهم وجدوا في أنفسهم لذة الأنس بأفكار تشابه أفكارهم، وآراء تشاكل آراءهم.
ولا أخشى بأسا إن قلت إن علم العامة أفضل من علم الخاصة؛ لأنه علم خالص من شائبة التكلف والتعمل، حتى إنك لتجد في بعض الأحايين بين معلومات الخاصة ومذاهبهم وآرائهم ما يضحك الثكلى لغرابته وشذوذه, وما يترفع أضيق العامة ذهنا وأضعفهم فهما أن يجعل له شأنا، أو يقيم له وزنا؛ ولأنه يعلق بالنفس ويتغلغل بين طياتها تغلغلا تظهر آثاره على الجوارح، وكثيرا ما تجد بين الجهلاء من تعجبك استقامته، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه، وإن كان صحيحا ما يقولون من أن العلم ما ينتفع به صاحبه، فكثير من الجهلاء، أعلم من كثير من العلماء.
فلا تبالغ في تقدير فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ولا تنظر إليهم نظرا يملأ قلبك رهبة وهيبة، ولا تغل في احتقار الجهلاء، وازدراء العامة والضعفاء، ولا تكن ممن يقضون حياتهم أسرى العناوين وعبيد الألقاب.
وإن في اختفاء الحقائق الكونية وتنكرها وضلال هذا العالم في مذاهبه ومراميه وتفرقه مذاهب وشيعا, وركوب كل فريق رأسه وهيامه على وجهه, ووقوف طلاب الحقيقة في كل دهر وعصر في مفارق الطرق ورءوس المسالك حيارى ينشدون فلا يجدون، ويجدّون فلا يصلون، لدليلا على أن الفلاسفة والحكماء والعلماء كلمات غير مفهومات، وأسماء بلا مسميات، وأن حقائق الأشياء وأسرار الكائنات قد استأثر الله بعلمها، واحتجنها من دون عباده، ولم يمنحهم منها إلا بلة تزيدهم وجدا كلما وجدوا بردها، وتملأ قلوبهم شوقا كلما تذوقوا طعمها.
ضريبك في بني الدنيا كثير ... وعز الله ربك من ضريب
وما العلماء والجهلاء إلا ... قريب حين تنظر من قريب















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید