المنشورات

الدعوة:

ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعيا إلى ترك ضلالة من الضلالات إلا وقد آذن نفسه بحرب لا تخمد نارها ولا يخبو أوارها حتى تهلك تلك الضلالة أو يهلك دونها.
ليس موقف الجندي في معترك الحرب بأحرج من موقف المرشد في معترك الدعوة، وليس سلب الأجسام أرواحها بأقرب منالا من سلب النفوس غرائزها وميولها.
لا يضن الإنسان بشيء مما تملك يمينه ضنه بما تنطوي عليه جوانحه من المعتقدات، وإنه ليبذل دمه صيانة لعقيدته، ولا يبذل عقيدته صيانة لدمه، وما سالت الدماء ولا تمزقت الأشلاء في مواقف الحروب البشرية من عهد آدم إلى اليوم إلا حماية للمذاهب وذودا عن العقائد.
لذلك كان الدعاة في كل أمة أعداءها وخصومها؛ لأنهم يحاولون أن يرزءوها في ذخائر نفوسها، ويفجعوها في أعلاق قلوبها.
الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة وقلوب صابرة على احتمال المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة حتى يبلغوا الغاية التي يريدونها أو يموتوا في طريقها.
الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين أو ضالين أو كافرين؛ لأن ذلك ما لا بد أن يكون.
الدعاة الصادقون يعلمون أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- عاش بين أعدائه ساحرا كذابا فلما مات مات سيد المرسلين، وأن الغزالي عاش متهما بالكفر والإلحاد ومات حجة الإسلام، وأن ابن رشد عاش ذليلا مهانا حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه ومات فيلسوف الشرق، فهم يحبون أن يكونوا أمثال هؤلاء العظماء أحياء وأمواتا.
سيقول كثير من الناس: وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لا تحسن به ظنا، ولا تسمع له قولا، إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته فيكون أجهل الناس وأحمق الناس.
هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين، وهذا هو الداء الذي ألم بنفوس كثير من العلماء فأسكت ألسنتهم عن قول الحق وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد، فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون، ويعيدوا عليهم ما يحفظون، فجمدت الأذهان وسكنت المدارك وأصبحت العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه الشمس ولا ينفذ إليه الهواء.
الجهل غشاء سميك يغشي العقل، والعلم نار متأججه تلامس ذلك الغشاء فتحرقه رويدا رويدا، فلا يزال العقل يتألم لحرارتها ما دام الغشاء بينه وبينها، حتى إذا أتت عليه انكشف له الغطاء فرأى النار نورا، والألم لذة وسرورا.
لا يستطيع الباطل أن يصرع الحق في ميدان؛ لأن الحق وجود والباطل عدم، وإنما يصرعه جهل العلماء بقوته، ويأسهم من غلبته، وإغفالهم النداء به، والدعاء إليه.
محال أن يهدم بناء الباطل فرد واحد في عصر واحد، وإنما يهدمه أفراد متعددون في عصور متعددة فيهزه الأول هزة تباعد ما بين أحجاره، ثم ينقض الثاني منه حجرا والثالث آخر وهكذا حتى لا يبقى منه حجر على حجر.
الجهلاء مرضى والعلماء أطباء، ولا يجمل بالطبيب أن يحجم عن العمل الجراحي فرارا من إزعاج المريض أو خوفا من صياحه وعويله أو اتقاء لسبه وشتمه، فإنه سيكون غدا أصدق أصدقائه وأحب الناس إليه.
وبعد فقليل أن يكون الداعي في الأمة الجاهلة حبيبا إليها إلا إذا كان خائنا في دعوته سالكا سبيل الرياء والدهان في دعوته، وقليل أن ينال حظه من إكرامها وإجلالها إلا بعد أن تتجرع مرارة دوائه، وتشعر بحلاوة الشفاء، بعد مرارة ذلك الدواء.
الدعاء في هذه الأمة كثيرون ملء الفضاء، وكظة1 الأرض والسماء، ولكن لا يكاد يوجد بينهم داع واحد؛ لأنه لا يوجد بينهم شجاع.
أصحاب الصحف وكتاب الرسائل والمؤلفون وخطباء المجامع وخطباء المنابر كلهم يدعون إلى الحق وكلهم يعظون وينصحون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضرا، أو يلاقي في طريقها شرا.
رأيت الدعاة في هذه الأمة أربعة، رجل يعرف الحق ويكتمه عجزا وجبنا، فهو ساكت طول حياته لا ينطق بخير ولا شر، ورجل يعرف الحق وينطق به، ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها، وكان خيرا له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المر في "برشامة" ليسهل تناوله وازدراده، ورجل لا يعرف حقا ولا باطلا، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في مسيرها, فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل والضار والنافع في موقف واحد،فكأنه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه:
مكر مفر مقبل مدبر معا
ورجل يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المجد المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنه صاحب هوى يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوها في ثياب صديقها؛ لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد، فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها.
ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلاءها، فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة ينيرون لهم طريق الدعوة, ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها، فليت شعري متى يتعلمون، ثم متى يرشدون.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید