المنشورات

الحياة الذاتية:

أكثر الناس يعيشون في نفوس الناس أكثر مما يعيشون في نفوسهم، أي: إنهم لا يتحركون ولا يسكنون ولا يأخذون ولا يدعون، إلا لأن الناس هكذا يريدون.
حياة الإنسان في هذا العالم حياة ضمنية مدخلة في حياة الناس، فلو فتش عنها لا يجد لها أثرا إلا في عيون الناظرين، أو آذان السامعين، أو أفواه المتكلمين.
يتمثل لي أن الإنسان لو علم أن سيصبح في يوم من أيام حياته وحيدا في هذا العالم لا يجد بجانبه أذنا تسمع صوته, ولا عينا تنظر شكله, ولا لسانا يردّد ذكره لآثر الموت على الحياة علّه يجد في عالم غير هذا العالم من آذان الملائكة أو عيون الجِنة مقاعد يقتعدها, فيطيب له العيش فيها.
إذا كانت حياة كل إنسان متلاشية في حياة الآخرين, فأي مانع يمنعني من القول بأن تلك الحياة التي نحسبها متكثرة في هذا العالم حياة واحدة يتفق جوهرها, وتتعدد صورها كالبحر المائج نراه على البعد فنحسبه طرائق قِدَدا, ونحسب كل موجة من أمواجه قسما من أقسامه, فإذا دنونا منه لا نرى غيره, ولا نجد لموجة من أمواجه حيزا ثابتا, ولا وصفا معينا.
لا حي في هذا العالم حياة حقيقية إلا ذلك الشاذّ الغريب في شئونه وأطواره وآرائه وأعماله, الذي كثيرا ما نسميه مجنونا, فإن رضينا عنه بعض الرضى في بعض الأحايين سميناه فيلسوفا ونريد بذلك أنه نصف مجنون، فهو الذي يتولى شأن الإنسان وتغيير نظاماته وقوانينه, وينتقل به من حال إلى حال بما يقلب من عاداته ويحوّل من أفكاره.
أي قيمة لحياة امرئ لا عمل له فيها إلا معالجة نفسه وتذليلها على الرضى بما يرضى به الناس, فيأكل ما لا يشتهي ويصدف نفسه عما تشتهي, ويسهر حيث لا يستعذب طعم السهر وينام حيث لا يطيب له المنام ويلبس من اللباس ما يحرج صدره أو يقصم ظهره, ويشرب من الشراب ما يحرق أمعاءه ويأكل أحشاءه, ويقف على ما يكره ويمشي إلى ما لا يحب, ويضحك لما يُبكي ويبكي لما يُضحك, ويبتسم لعدوه ويقطب في وجه صديقه, وينفق في دراسة ما يسمونه علم آداب السلوك أي: علم الدهان والملق, زمنا لو أنفق عشر معشاره في دراسة علم من علوم الحقيقة لكان نابغته المبرز فيه حرصا على رضاء الناس, وازدلافا إلى قلوبهم.
ليست شهوة الخمر من الشهوات الطبيعية المركبة في غرائز الناس، فلو لم يذوقوها لما طلبوها ولا كلفوا بها، وما جناها عليهم إلا كلف تاركيها برضاء شاربيها، وما كان الترف خلقا من الأخلاق الطبيعية للإنسان ولكن كلف المتقشفون برضاء المترفين فتترفوا، فحملوا في ذلك السبيل من شقاء العيش وبلائه وأثقال الحياة ومؤنها ما نغّص عليهم عيشهم وأفسد عليهم حياتهم، وإنك لترى الرجل العاقل الذي يعرف ما يجب ويعلم ما يأخذ وما يدع يبيع منزله في نفقة المأتم وأثاث منزله في نفقة العرس, فلا تجد لفعله تأويلا إلا خوفه من سخط الناس واتقاءه مذمتهم، وكثيرا ما قتل الخوف من سخط الناس والكلف برضاهم ذكاء الأذكياء، وأطفأ عقول العقلاء، فكم رأينا من ذكي يظل طول حياته خاملا متلففا لا يجرؤ على إظهار أثر من آثار فطنته وذكائه؛ مخافة هزء الناس وسخرهم، وعاقل لا يمنعه من الإقدام على إصلاح شأن أمته وتقويمها إلا سخط الساخطين, ونقمة الناقمين.
وما أعجبت برجل في حياتي إعجابي بأديب من أدباء هذه الأمة من الذين يملئون الصدور والأسماع, يرمي بالرسالة من رسائله في الصحيفة من الصحف ثم يمضي لسبيله قُدُما فلا يمشي
وراءها مشية المتسمع المتجسس ليعلم ما رأي الناس فيها وما حديثهم عنها, وهل سخطوا عليها أو رضوا بها, ولا يمشي متنقلا في المجامع والأندية مسائلا عنها كل غادٍ ورائح ليجد خيرا فيضحك ويستبشر، أو شرا فيبكي ويبتئس، بل كثيرا ما رأيته يسمع حديث الناس عنه في حالي رضاهم وسخطهم ساكنا هادئا كأنما يحدثون غيره ويعنون سواه، حتى كدت أتخيل أن لا فرق عنده بين أحسنتَ وأجدتَ، وأسأتَ وأخطأتَ، بل قلما رأيته على كثرة لصوقي به وتفقدي مواقع سمعه وبصره يقرأ ما تكتبه الصحف عنه وما تعلقه على آرائه في رسائله من مدح أو ذمّ حتى كدتُ أحمل تلك الحال الغريبة من أمره على البله والغفلة, أو العظمة والكبرياء لولا أني فاتحته مرة في ذلك وسألته: لم لا تحفل برأي الناس فيك؟ ولم لا تقرأ ما يكتبون عنك؟ فأجاب: إنني ما أقدمت على الكتابة للناس في إصلاح شئونهم وتقويم معوجّهم إلا بعد أن عرفت أني أستطيع أن أنزل منهم منزلة المعلم من المتعلم، والناس خاصة وعامة، أما خاصتهم فلا شأن لي معهم ولا علاقة لي بهم ولا دخل لكلمة من كلماتي في شأن من شئونهم, فلا أفرح برضاهم ولا أجزع لسخطهم؛ لأني لم أكتب لهم ولم أتحدث معهم ولم أُشهدهم أمري ولم أُحضرهم عملي، بل أنا أتجنب جهد المستطيع أن أستمع منهم كل ما يتعلق بي من خير أو شر؛ لأني راضٍ عن فطرتي وسجيتي في اللغة التي أكتب بها, فلا أحب أن يكدّرها عليّ منهم مكدِّر وعن آرائي ومذاهبي التي أودعها رسائلي, فلا أحب أن يشككني فيها منهم مشكك، ولم يهبني الله من قوة الفراسة ما أستطيع أن أميز به بين مخلصهم ومشوبهم, فأصغي إلى الأول لأستفيد علمه, وأعرض عن الثاني لأتقي غشه، فأنا أسير بينهم مسير رجل بدأ يقطع مرحلة لا بد له أن يفرغ منها في ساعة محدودة, ثم علم أن على يمين الطريق الذي يسلكه روضة تعتنق أغصانها وتشتجر أفنانها وتغرد أطيارها وتتألق أزهارها، وأن على يساره غابا تزأر أسوده وتعوي ذئابه وتَفِحّ أفاعيه وصلاله, فمشى قدما لا يلتفت يمنة مخافة أن يلهو عن غايته بشهوات سمعه وبصره, ولا يسرة مخافة أن يهيج بنظراته فضول تلك السباع المقعية والصلال الناشرة فتعترض دون طريقه، وأما عامتهم فهم بين ذكي قد وهبه الله من سلامة الفطرة وصفاء القلب ولين الوجدان ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه فأنا أحمد الله في أمره، وضعيف قد حِيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه ولا يسمع إلا ما يطربه فأكل أمره إلى الله وأستلهمه صواب الرأي فيه حتى يجعل له من بعد عسر يسرا، فأنا أكتب لا لأعجب الناس بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أنت أحسنت بل لأجد في نفوسهم أثرا مما كتبت، فلو أن هذه العشرة الملايين التي يحتضنها هذان الجبلان أجمعت أمرها على الإعجاب بي والرضاء عني ثم رأيت من بينها رجلا واحدا ينتفع بما أقول لكان الواحد المستفيد آثر في نفسي من الملايين المعجبين، أتدري لِمَ عجز كتاب هذه الأمة عن إصلاحها؟ لأنهم يظنون أنهم لا يزالون حتى اليوم تلاميذ في المدارس, وأنهم جالسون بين أيدي أساتذة اللغة يتلقون عنهم دروس البيان، فترى الواحد منهم يكتب وهمه المالئ قلبه أن يعجب اللغويين، أو يروق المنشئين، أو يطرب الأدباء، أو يضحك الظرفاء، ولا يدخل في باب أغراضه ومقاصده أن يتفقد المسلك الذي يريد أن يسلكه إلى قلوب الناس الذين يقول: إنه يعظهم أو ينصح لهم أو يهذبهم أو يثقفهم؛ ليعلم كيف ينفذ إلى نفوسهم وكيف يهجم على قلوبهم وكيف يملك ناصية عقولهم, فيعدل بها عن ضلالها إلى هداها، وعن فسادها إلى صلاحها، فمثله كمثل الفارس الكذاب الذي تراه كل يوم حاملا سيفه إلى الجوهري يرصع له قبضته, أو الحداد ليشحذ له حده, أو الصيقل ليجلو به صفحته, ولا تراه يوما في ساحة الحرب ضاربا به. 
قد يكون الولع برضاء الناس والخوف من سخطهم مذهبا من مذاهب الخير, وطريقا من طرق الهداية للضالّ عنها لو أن الفضيلة هي الخلق المنتشر فيهم والغالب على أمرهم، بل لو كان الأمر كذلك لآثرت أن يعرض المرء نفسه على الفضيلة ذاتها من حيث هي, لا من حيث تشخصها في أفعال الناس وأقوالهم، فإذا استوثق منها وعلم أنها قد خالطت قلبه وأخذت مستقرها من نفسه جعلها ميزانا يزن به أقواله وأفعاله كما يزن به أقوال الناس وأفعالهم, ثم لا يبالي بعد ذلك أرضوا عنه أو سخطوا عليه, أو أحبوه أو أبغضوه, فإنما يبكي على الحب النساء.
















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید