المنشورات

السياسة:

حضرة السيد الفاضل
ما لك لا تكثر من الكتابة في الشئون السياسية إكثارك منها في الشئون الأخلاقية والاجتماعية؟ وكيف يضيق بالسياسة قلمك وقد وسع كل شيء؟ فاكتب لنا في السياسة, فأمتك تحب أن تراك سياسيا والسلام فلان.
أيها الكاتب:
يعلم الله أني أبغض السياسة وأهلها بغضي للكذب والغش والخيانة والغدر.
أنا لا أحب أن أكون سياسيا؛ لأني لا أحب أن أكون جلّادا.
لا فرق عندي بين السياسيين والجلادين إلا أن هؤلاء يقتلون الأفراد, وأولئك يقتلون الأمم.
هل السياسي إلا رجل عرفت أمته أنه لا يوجد بين أفرادها من هو أقسى منه قلبا، ولا أكثر كيدا؛ فنصبته للقضاء على الأمم الضعيفة وسلبها ما وهبها الله من الحسنات، وأجزل لها من الخيرات.
أليس أكبر السياسيين مقاما وأعظمهم فخرا وأسيرهم ذكرا ذلك الذي نقرأ صفحات تاريخه, فنرى حروفها من أشلاء القتلى, ونُقَطها من قطرات الدماء.
أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله، يبطن ما لا يظهر، ويظهر ما لا يبطن، ويبتسم في مواطن البكاء، ويبكي في مواطن الابتسام.
أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا عرف أن بين جنبيه قلبا متحجرا لا يقلقه بؤس البائسين، ولا تزعجه نكبات المنكوبين.
كثيرا ما يسرق السارق, فإذا قضى مأربه رفع يده متضرعا إلى الله أن يرزقه المال حلالا حتى لا يتناوله حراما، وكثيرا ما يقتل القاتل فإذا فرغ من أمره جلس بجانب قتيله يبكي عليه بكاء الثكلى على وحيدها، أما السياسي فلا يرى يوما في حياته أسعد من اليوم الذي يعلم فيه أن قد تم له تدبيره في إهلاك شعب وإفقار أمة، وآية ذلك أنه في يوم انتصاره كما يسميه هو أو في يوم جنايته كما أسميه أنا يسمع هتاف الهاتفين مطمئن القلب مثلج الصدر، حتى ليخيل إليه أن الفضاء بأرضه وسمائه أضيق من أن يسع قلبه الطائر المحلق فرحا وسرورا.
يقولون: إن السياسة ليست علما من العلوم التي يتعلمها الإنسان في مدرسة أو يدرسها في كتاب، وإنما هي مجموعة أفكار قانونها التجارب وقاعدتها العمل، أتدري لماذا؟
لأن العلماء أشرف من أن يدونوا المكايد والحيل في كتاب، والمدارس أجلّ من أن تجعل بجانب دروس الأخلاق والآداب دروس الأكاذيب والأباطيل، وإلا فكل طائفة من طوائف المعلومات المتشابهة تدخل بطبيعتها تحت قانون عام يؤلفها, ويجمع بين أشتاتها.
هؤلاء هم السياسيون وهذه هي أخلاقهم وغرائزهم في الأعم الأغلب من شئونهم وأطوارهم، فهل تظن أيها الكاتب أن رجلا نصب نفسه لنصرة الحقيقة والأخذ بضبعي الفضيلة لاستنقاذها من بين مخالب الرذيلة, ووقف قلمه على تهذيب النفوس وترقية الخلاق, وملأ في رسائله فضاء الأرض والسماء بكاء ونواحا على أمته المسكينة المستضعفة, يستطيع أن يكون سياسيا أو محبا للسياسيين؟!
















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید