المنشورات

الحسد:

لو عرف المحسود ما للحاسد عنده من يد وما أسدى إليه من نعمة لأنزله من نفسه منزلة الأوفياء المخلصين، ولوقف بين يديه تلك الوقفة التي يقفها الشاكرون بين أيدي المحسنين.
لا يزال صاحب النعمة ضالا عن نعمته لا يعرف لها شأنا، ولا يقيم لها وزنا، حتى يدله الحاسد عليها بنكرانها، ويرشده إليها بتزييفها والغض منها، فهو الصديق في ثياب العدو والمحسن في صورة المسيء.
أنا لا أعجب لشيء عجبي لهذا الحاسد، ينقم على حسوده نعم الله عليه ويتمنى لو لم تبق له واحدة منها وهو لا يعلم أنه في هذه النقمة وفي تلك الأمنية قد أضاف إلى نعم محسوده نعمة هي أفضل من كل ما في يديه.
وجه الحاسد ميزان النعمة ومقياسها، فإن أردت أن تزن نعمة وافتك فارم بخبرها في فؤاد الحاسد ثم خالسه نظرة خفية, فحيث ترى الكآبة والهم فهناك جمال النعمة وسناؤها.
ليس بين النعم التي ينعم بها الله على عباده نعمة أصغر شأنا وأقل خطرا من نعمة ليس لها حاسد، فإن كنت تريد أن تصفو لك النعم فقف بها في سبيل الحاسدين، وألقها في طريق الناقمين، فإن حاولوا تحقيرها وازدراءها فاعلم أنهم قد منحوك لقب "المحسَّد" فليهنأ عيشك، وليعذب موردك.
إن أردت أن تعرف أي الرجلين أفضل، فانظر إلى أكثرهما نقمة على صاحبه وكلفا بالغض منه والنيل من عرضه, فاعلم أنه أصغرهما شأنا وأقلهما فضلا.
قد جعل الله لكل ذنب عقوبة آتية يتألم لها، فالشارب يتألم عند حلول مرضه، والمقامر يوم نزول فقره، والسارق يوم زيارة سجنه.
أما الحاسد فعقوبته حاضرة, لا تفارقه ساعة واحدة.
إنه يتألم لمنظر النعمة كلما رآها، والنعمة موجود من الموجودات الثابتة التي لا يلم بها إلا التنقل من مظهر إلى مظهر والتحول من موقف إلى موقف، فهيهات أن يفنى ألمه أو ينقضي عذابه، حتى تقر عينه التي تبصر، ويسكن قلبه الذي يخفق.
الحسد مرض من الأمراض القلبية الفاتكة، ولكل داء دواء، ودواء الحسد أن يسلك الحاسد سبيل المحسود ليبلغ مبلغه من تلك النعمة التي يحسده عليها، ولا أحسب أنه ينفق من وقته وعمله في هذه السبيل أكثر مما ينفق من ذلك في الغض من شأن محسوده والنيل منه، فإن كان يحسده على المال فلينظر أي طريق سلك إليه فليسلكه، وإن كان يحسده على العلم فليتعلم، أو الأدب فليتأدب، فإن بلغ من ذلك مأربه فذاك، وإلا فحسبه أنه ملأ فراغ عمره بشئون لولاها لقضاه بين الغيظ الفاتك، والكمد القاتل.















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید