المنشورات
الأوصياء:
مرض فلان مرض الموت فلم يحفل بالمنية؛ لأنه اقتطف زهرة الحياة جميعها, ولأن الثمانين قد ألحت عليه بصبحها ومسائها وليلها ونهارها, فلم تترك له خيطا من خيوط الأمل ولا شعاعا من أشعة الرجاء لولا أن بين يديه ولدا صغيرا في السابعة من عمره قد ماتت أمه من عهد قريب، وللشيوخ الكبار إلى أبنائهم الصغار حنين الإبل إلى أعطانها، فنظر إليه وهو يحوم حول فراشه نظرة طويلة لم يسترجعها إلا مبللة بالدمع المنسجم, ثم زفر زفرة شديدة خيل لرائيها أنها الزفرة الأخيرة, وأنشأ يقول:
أي بني، من لي بقلب يرعاك مثل قلبي، وعين تسهر عليك مثل عيني، وروح ترفرف فوق رأسك مثل روحي، ونفس تضم جوانحها عليك مثل نفسي؟
أي بني، كأني بركب الموت وقد نزل بي وحلّ بساحتي، وكأني به وقد احتملني من فضاء القصر إلى مضيق القبر، ومن نور الحياة إلى ظلمة الموت، وكأني بك وقد طفقت تنشدني فلا تجدني, وتفتش عني فلا تراني, ففزعت وارتعت ثم صرخت فصعقت, فلم تجد بجانبك من يمسح دمعك ويخفف حزنك.
من لي بصديق أثق بوده وإخلاصه ورحمته وحنانه, فأكل إليه أمرك وأعتمد عليه في تأديبك وتخريجك وإبلاغك ما أرجو لك من السعادة في مستقبل دهرك؟
فما أتم نجاءه حتى دخل عليه صديقه الوحيد الذي كان يأنس به ويستخلصه لنفسه, وقد سمع آخر نجواه فقال له: هون عليك أيها الصديق, فأنا صديقك الذي تنشده وأنا والد ولدك من بعدك وخليفتك بعد الله عليه، ثم ترامى على فراشه يبكي لبكائه وينشج لنشيجه, فاستنار قلبه بنور الأمل وقال: أحمدك اللهم, فقد رحمت ولدي وحفظت بيتي.
وما هي إلا أيام قلائل حتى كتب الشيخ كتاب الوصية بيده, ثم أجاب دعوة ربه تاركا في يد ذلك الصديق الكريم مجده وشرفه وماله وولده.
اتخذ الشيخ ذلك الرجل صديقا له في العامين الأخيرين من أعوام حياته بعدما رآه يكثر الاختلاف إليه ويطيل اللبث بجانبه, ويلازم الوقوف عند أمره ونهيه, ويخف لقضاء حاجاته ولباناته،ذلك إلى ما كان يراه متجملا به من صلاح مملوء بالركعات والسجدات، والتسبيحات المتواليات، وعفة حتى عن لقمة من الزاد يصيبها على مائدته، وتورع حتى عن جرعة من الماء يتجرعها في حضرته، فاستخلصه لنفسه وأنزله من قلبه المنزلة التي لا يجاوره فيها غير ولده, وأصبح آثر الناس عنده حتى ما يستطيع فراقه لحظة ولا يصبر عنه ساعة إلى أن أحس باقتراب الأجل, فأوصاه بما أوصى وعهد إليه بما عهد.
هذا تاريخ ذلك الصديق في حياة الشيخ، أما تاريخه بعد مماته فسأسمعك منه ما تهوي له الأفلاك عجبا وتخر له الجبال هدا.
لم تكن صلاته إلا رياء ونفاقا وركوعه وسجوده إلا كيدا ودهانا وعفته وزهادته إلا حبالة نصبها ليعلق بها عقل الشيخ وقد علق، فيسلبه ماله وولده وقد فعل، وما كان اختلافه إليه ولا تردده عليه إلا طمعا في هذا المصير الذي صار إليه، فلما علم أن قد تم له من أمره ما أراد أطلق يده في مال الصغير يعبث به عبث النكباء بالعود ويبتاع به لنفسه ما شاء الله أن يبتاع من قصور ودور وبساتين وضياع, فنبه ذكره بعدما كان خاملا، ونبت ريشه بعدما كان عاريا، وأصبح صاحب السلطان المطلق في ذلك القصر يذل من يشاء, ويعز من يشاء.
أما شأنه مع الولد فقد علم أنه سيبلغ عما قليل أشده ويملك رشده, وأنه سيقطع عليه لذته ويقف له موقف المعترض سبيله ويحاسبه على القليل والكثير والصغير والكبير, فلم ير له بدا من أن يعد لذلك اليوم عدته, فعمد إلى الولد فقطعه عن المدرسة لأنه لا يحب أن ينشأ متعلما، ثم أغرى به من ساقه إلى مواطن الفسق ومجامع الشراب لأنه لا يحب أن ينشأ عاقلا، وما زال ينفق عليه وعلى الموكلين بإفساده من وراء حجاب حتى علق برأسه الشراب علوق السلال بالصدور, فأصبح بين الحانات والمواخير كالطائر بين أغصان الأشجار, لا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا.
فكأنما وكل بعقله مقراضا يقرض له في كل يوم منه قطعة حتى كاد يأتي عليه، فما بلغ السن التي يرشد فيها القاصرون حتى استحال الوصي على القاصر قيما على المعتوه, ولم يبذل في سبيل الوصول إلى ذلك أكثر من لقيمات ألقاها من فتات تلك المائدة إلى المجلس الحسبي, فأدخله تلك الجنة الزاهرة بغير حساب ولا عقاب.
شرع الله شريعة الحجر على السفهاء والمعتوهين وإقامة القوام عليهم رحمة بهم, فاستحالت على يد المجالس الحسبية نقمة عليهم وأصبح اللص الذي لا يحسن صناعة فتح الأقفال ويتقي مغبة تسلق الجدران, قادرا على أن يسرق ما يشاء حينما يشاء تحت راية هذه الشريعة المقلوبة من حيث يأمن الوقوف أمام محكمة الجنايات وجر الأثقال في غيابات السجون, وانتقلت الثروات العظيمة من أيدي أصحابها مخافة أن يسرفوا فيها إلى أيدي آخرين يبددونها تبديدا ويمزقون أديمها تمزيقا من حيث لا يكون بينهم وبين المورث صلة نسب أو وشيجة رحم حتى أصبح السعي في جمع المال في هذا العصر وادخاره للوارثين عملا من الأعمال الباطلة وضربا من ضروب الجهل الفاضح، فمن لي إن أنا دبرت المال وجمعته ألا يكون وارثي فيه من بعدي لصا من أولئك اللصوص الذين تمنحهم المجالس الحسبية ما تمنعهم الشرائع الإلهية، ومن لي أن أعيش إلى أن أدرك ولدي فأتولى أمر تربيته بنفسي قبل أن يظفر به في حداثته ظفر جارح من أظفار الأوصياء, فيميت نفسه ويقتل عقله ويفسد عليه شأن حياته ويلبسه من الفضيحة والعار ما يقلق نفسي في عالمها, ويزعج عظامي في مرقدها.
فلقد حدثني من قص علي تلك القصة الماضية أن ذلك الوصي لما علم أن قد تم له من الحجر على ذلك الغلام ما أراد عمد إلى تزويجه من فتاة حسناء من بنات الأشراف ما كان يعنيه أن يزوجه منها لولا أن له في ذلك مأربا من المآرب الفاسدة, فما كادت تخلع العروس خلعة عرسها حتى أنشأ يختلف إليها ويكثر ازديارها في الجناح الذي تسكنه من القصر بما له عليها من حق الولاية والرعاية والنظر في شئونها ومرافقها، ثم ما زال يختلها عن نفسها ويزين لها ما يزينه الشيطان للإنسان حتى علقت بحبالته كما علق بها غيرها من قبلها, ففركت زوجها وبرمت به فرابه من أمرها ما رابه, فرصدها حتى عرف موطن سرها وموقع هواها فشكا فلم يجد سامعا, ثم بكى فلم يجد راحما, فكان يقضي كثيرا من لياليه في غرفة من غرف القصر واجما مطرقا مسلما رأسه إلى ركبتيه ودمعه إلى خديه, لا سمير له ولا مؤنس إلا نغمات الضحكات التي كان يسمعها في غرفة زوجته, فتارة يثب وثبة الأسد فيثير في القصر ثائرة شعواء تضج لها جوانبه, فيتسارع إليه الخدم فيضربون على يده وفمه بأمر سيدهم, وأخرى يعود إليه بلهه فينظر إلى هذه المناظر المؤلمة نظر الضاحك اللاعب.
مرت على تلك الحوادث سنوات عديدة استأثر فيها ذلك الوصي بتلك الدائرة الواسعة, وألح عليها بكلكله حتى اجتز وبرها, ثم استكشط جلدها فلم يبق منها إلا هيكل العظام, وعلم أن قد قامت قيامة الناس عليه وأن قصته مع زوجة الغلام وماله قد ملأت مسمع الخافقين, وأن نجمه الثاقب قد مال إلى الأفول, عمد إلى حيلة شيطانية ختم بها تلك الرواية بمثل ما تختم به الروايات المحزنة.
تفتّح للغلام بعد انقباضه وابتسم إليه بعد تقطيبه, وابتاع له ما اقترحه عليه من ثوب فاخر ومركب فاره ومزاهر وعيدان وكئوس ودنان، ثم خلا به في ساعة من ساعات نشوته وارتياحه فقال له: أيها الصديق قد آن أوان قيامك بشأنك وانفرادك بأمرك, فاكتب إلى المجلس الحسبي رقعة تطلب فيها رفع الحجر عنك, واكتب توقيعك على هذه الجريدة جريدة الحساب, فداخل الغلام من السرور والغبطة ما طار بلبه, فكتب الأولى ووقع الأخرى, ثم أوعز الوصي إلى المجلس الحسبي بتلبية طلبه فلباه وقضى برفع الحجر عنه, فاستقبل الغلام تلك النعمة استقبال الظامئ كأس الشراب وكان لا بد له من أن يشرب حتى يبشم, ففتش بين يديه عن مال ينفقه فلم يجده وكان الرجل قد وكل به عونا من أعوانه يداخله ويتحين فرصة حاجته إلى المال فيمنحه, فكان يعطيه المال باليمين ويأخذ منه صك البيع باليسار, فما زال هذا يعطي وذاك يأخذ حتى أصبح نصف تلك الدائرة بعد عامين اثنين ملكا لعون الوصي وللوصي غدا بثمن لا يساوي عشر معشارها, بل بغير ثمن, وهل ابتاعها مبتاعها إلا بمالها وأنفق عليها إلا ثمرتها؟
هنالك قام الوصي وقعد ونادى في الناس بصوت يشبه صوت الحق ونغمة تشاكل نغمة الصدق: أيها الناس, قد كنت أنذرتكم بمصير هذا الغلام إن صار أمره إلى نفسه فكذبتم قولي, وفندتم رأيي وما زلتم تقولون كيت وكيت حتى أحرجتم صدري, ودفعتموني إلى الغدر بذلك العهد الذي أخذه علي ذلك الصديق الكريم أن أتولى شأن ولده من بعده, وألا أتخلى ساعة واحدة عن رعايته وتعهده, فكان ما كان مما تعلمون من تبديد ثروته وتمزيقها, فها أنتم ترون بأعينكم شؤم رأيكم وجريرة سعيكم.
ثم أعاد كرته على الغلام وسعى سعيه في المجلس الحسبي, فأعاده سيرته الأولى ووضع في عنقه غلا لا فكاك له من بعده إلى يوم يبعثون.
ليت شعري هل يعلم ذلك المقبور في لحده ما صنعت يد الحدثان بماله وولده, وأن المال قد ورثه غير وارثه واستأثر به غير صاحبه, وأن الولد قد أصبح بعد ذلك الملك الكبير، والجنة والحرير، يطلب المضغة فتعوزه والجرعة فتتعذر عليه، وأنه يبيت الليالي ذوات العدد مطرحا في زواية من زوايا الحانات لا وطاء غير أديم التراب، ولا غطاء غير قطع السحاب، وهل أعد عدته للوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم المشهود, يوم تكشف الهنات وتفضح العورات، فيمسك ولده بيمناه ووصيه بيسراه ثم يناجي ربه ويقول: اللهم اعدني على هذا الكاذب الذي ختلني وخدعني وخفر ذمتي وخاس بعهدي وخان أمانتي وأفسد وصيتي, وخذ لولدي بحقه من هذا الظالم الذي سرق ماله وهتك عرضه وعذب نفسه ونغص عيشه, فأنت أعدل الحاكمين وأرحم الراحمين.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)