المنشورات

الانتحار:

قرأت في الصحف أن رجلا من تجار المسلمين انتحر لا لضيق يد أو شدة مرض أو بؤس حال, بل لأنه حزن على وفاة صديق له, فقتل نفسه.
إن الرجل مؤمن يعتقد ولا شك بسوء عاقبة المنتحر, فكيف هان عليه وهو في آخر يوم من أيام حياته أن يضم إلى خسارة دنياه خسارة آخرته, وهي العزاء الباقي عن كل ما يلاقي المؤمن في حياته من شقاء وعناء.
إن الانتحار من حيث هو مبدأ فاسد, وعادة مستهجنة رمتنا بها المدنية الغربية فيما رمتنا به من مفاسدها وآفاتها.
ولقد كنا نعجب قبل اليوم من تهالك المصريين على حب تقليد الغربيين حتى فيما يؤذيهم في مالهم أو عرضهم وصحتهم, أو كنا إذا أردنا المبالغة في تمثيل هذا التهالك قلنا: يوشك أن يقتل المصري نفسه بنفسه إذا علم أن ذلك عادة من العادات الغربية فقد صار قريبا ما كان بعيدا, وأصبح مألوفا ما كنا نعده مثلا من الأمثال.
الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخور, وما يصل إليه العقل من الاضطراب والهوس, وأحسب ألا يقدم الإنسان على الانتحار وفي نفسه ذرة من العزم، أو في عقله لمحة من الحزم.
حب النفس غريزة وضعها الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان لتكون ينبوع العمل ومبعث الحركة ومطلع شمس المدنية والعمران، والمنتحر يبغض نفسه بأشد مما يبغض الإنسان أعدى أعدائه، فهو شاذ في طبيعته, غريب في خلقه, معاند لإرادة الله تعالى في حياة الكون وعمرانه، ومن كان هذا شأنه كان بلا قلب ولا عقل.
لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه من الهم ونفسه من الأسى, ومهما ألمت به كوارث الدهر ونزلت به ضائقات العيش؛ فإن ما أقدم عليه أشد مما فر منه, وما خسره أضعاف ما كسبه.
لو كان ذا عقل لعلم أن سكرات الموت تجمع في لحظة واحدة جميع ما تفرق من آلام النفوس وشدائدها, وأن قضاء ساعة واحدة فيما أعد الله لقاتل نفسه من العذاب الأليم الدائم أشد مما يلاقيه من مصائب الحياة, وأرزائها لو يعمر ألف سنة.
ما أكثر هموم الدنيا وما أطول أحزانها، لا يفيق المرء فيها من هم إلا إلى هم ولا يرتاح من فاجعة إلا إلى مثلها, ولا يزال بنوها يترجحون ما بين صحة ومرض وفقر وغنى وعز وذل وسعادة وشقاء، فإذا صح لكل مهموم أن يكره حياته وكل محزون أن يقتل نفسه خلت الدنيا من أهلها واستحال المقام فيها, بل استحال الوفود إليها وتبدلت سنة الله في خلقه, ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ما سمي القاتل مجرما إلا لأنه قاسي القلب متحجر الفؤاد، وأقسى منه قاتل نفسه لأنه ليس بينه وبينها من الضغينة والموجدة ما بين القاتل والمقتول, فهو أجرم المجرمين وأفظع القاتلين.
يخدع المنتحر نفسه إن ظن أنه مقتنع بفضل الموت على الحياة, وأنه يفعل فعلته عن روية وبصيرة فإنه لا يكاد يضع قدمه في المأزق الأول من مآزق الموت حتى يثوب إليه رشده وهداه, ويحاول التخلص مما وقع فيه لو وجد إلى ذلك سبيلا.
إن ألقى نفسه في الماء تخبط ومد يده إلى من يرجو الخلاص على يده, وود لو يفتدى نفسه بكل ما تملك يمينه، وإن أغلق على نفسه نوافذ غرفة مملوءة بغاز الفحم ود لو سقط عليه سقف الغرفة ليستنشق نسمات الهواء, ولو عاش بعد ذلك كسير اليد والرجل, فاقد السمع والبصر.
إن فكرة الانتحار نزغة من نزغات النفس وخطرة من خطرات الشيطان, فمن حدثته نفسه بقتل نفسه فليتمهل ريثما يتبين كيف يكون صبره على احتمال سكرات الموت وآلام النزع, وكيف يكون حديث الناس عنه بعد موته, وهل يمكن أن يوجد بينهم عاذر له أو ساكت عن ازدرائه واحتقاره ورميه بالعته والجنون، وليستحضر في مخيلته أشكال العذاب وألوان العقاب التي أعدها الله في الدار الآخرة لأمثاله, ثم لينظر أيرتكب جريمة الانتحار؟ لا أظنه بعد ذلك فاعلا إلا إذا كان وحشا في ثوب إنسان، أو بطلا من أبطال البيمارستان.

















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید