المنشورات
مقدمة مختارات المنفلوطي:
عرفت حاجتك يا بنيّ أعزك الله إلى كتاب1 يجمع لك من جيد منظوم العرب ومنثورها في حاضرها وماضيها, وفي كل فن وغرض من فنونها وأغراضها ما تستعين باستظهاره أو ترديد النظر فيه على تهذيب بيانك وتقويم لسانك, وعلمت أنك لن تستطيع أن تجد طلبتك هذه في مختار من مختارات المتقدمين، ولا في مجموعة من مجموعات المعاصرين، أما المتقدمون فهم بين نحوي لا يعجبه من الكلام إلا ما يجد فيه مذاق شواهد العلم الذي يعالجه, ولا تسكن نفسه إلا إلى البيت الذي يرى فيه عقدة يتفصح بحلها أو خطأة يتفكه بتأويلها أو نادرة من نوادر الإعراب والبناء يؤيد بها رأيا أو يساجل بها خصما, ولغوي مولع بما يشتمل على الغريب النادر من مفردات اللغة وتراكيبها, فلا يكاد يعدل بشعر الجاهلية وما جرى مجراه شعر طبقة من الطبقات ولا يرى غير كلامهم كلاما ولا مذهبهم مذهبا، وعصر الجاهلية فيما أعتقد هو عصر الطفولة الشعرية أي: إن الشعر كان فيه بسيطا ساذجا لم يهذبه العلم ولم تصقله الحضارة ولم تصل به أشعة الخيال, فتنير ظلمته، فهو وإن كان أصدق الشعر وأجدره أن يكون صفحة صحيحة لتاريخ عصره ولكن قلما يستفيد شاعر الحضارة من أكثره أكثر من المادة اللغوية، وما الفرق بين شعر الجاهلية وشعر طبقة المحدثين والمولدين من بعده إلا كالفرق في الموسيقى بين نغمات الحداة في أعقاب الإبل, ونغمات الضاربين على أوتار الأعواد والبرابط في عصر الحضارة الإسلامية، وعندي أن للنزعة التاريخية سلطانا على نفوس المولعين بالشعر الجاهلي أكثر من النزعة الفنية, فمثلهم كمثل المولعين بالعاديات الذين يؤثرون حجر الجرانيت على حجر الماس, ويعجبهم منظر هرم خوفو أكثر مما يعجبهم منظر برج إيفل، وراوية همه في حياته أن يدور بيده ليله ونهاره في زوايا رأسه عله يعثر ببيت لا يعرفه غيره منسوبا إلى قائل لا يعرف نسبته إليه سواه, ثم لا يبالي بعد ذلك أحسن أم أساء، فهو بالمؤرخ أشبه منه بالأديب، وأديب جمع ما جمعه لعصر غير عصرك وقوم غير قومك وحال ومجتمع غير حالك ومجتمعك, فإن أفادك قليله لا ينفعك كثيره، وأحسب أن ما جمعه من الشعر بالحماسة ووصف الحروب وأسلحتها ودمائها وغبارها وأشلائها ووصف الإبل في مباركها والشاء في حظائرها والأبقار في مراتعها هو آخر ما يحتاج المتأدب إلى النظر فيه في هذا العصر، وبين مطيل قد خلط جيده برديئه وغثّه بسمينه فلا تصل يدك إلى ما في منجمه من ذرات التبر حتى تنبش عنها ما لا قبل لك باحتماله من حقائب الرمل, ومقصر يختص بالاختيار عصرا دون عصر أو فردا دون فرد أو قوما دون قوم أو بابا من أبواب البيان دون باب, وهو يعلم أن المتأدب شاعرا كان أو كاتبا لا يكمل أدبه ولا تصفو قريحته ولا تلمع صفحة بيانه ولا تنحل عقده لسانه إلا إذا تمهل في روض البيان, فاقتطف ألوان زهراته من أنواع شجراته، وأن الشاعر لا يغنيه المدح والهجاء عن البكاء والرثاء، ولا العتاب والود عن التشبيه والوصف، ولا البكاء على المنازل والديار وفراق الأحبة وموت الموتى عن البكاء على المجد الضائع، والملك الساقط، والعرض المغلوب، والشرف المسلوب، كما لا يغنيه وصف السيف في رونقه وبهائه عن وصفه في حدته ومضائه، ولا وصف البدر في جماله ورُوائه عن وصفه في عزته وخيلائه، ولا تشبيه قوادم الحمامة عن تشبيه ذنب القطاة، ولا تصوير ذكاء الفيل عن تمثيل إحساس النملة، وأن الكاتب لا يبلغ مرتبة البيان ولا يصل إلى منزلة القدرة على الإفصاح عن أغراضه ومراميه في جميع مواقفه ومذاهبه حتى يأخذ بأزمَّة القول جميعها ويشتمل على أساليب الكلام بأنواعه, ويعلم أن الكتابة في العلم غير الكتابة في الأدب, وأن للخطب أسلوبا غير أسلوب الكتب, وأن لكل نوع من أنواع العلوم والفنون طريقا في الكتابة خاصا به لا يفارقه إلى غيره ولا يشركه فيه سواء, وأن الانتقاد غير الهجاء والهجاء غير التهكم والتهكم غير التأنيب والتأنيب غير الإنذار والتهديد، وأما المعاصرون فهم إما تابع متأثر يعتمد في اختيار ما يختار على نباهة النابه وفي اطراح ما يطرح على خمول الخامل, ويعتبر التقدم في الزمن شافعا يشفع في إساءة المسيء والتأخر فيه ذنبا يذهب بإحسان المحسن، وإما خابط متقمم يعتمد في الاختيار على يده لا على بصره, فيأخذ من كل كتاب صفحة ومن كل ديوان ورقة ثم يعرض على الأنظار كتابا غريبا في اختلاف ألوانه وتزايل أوصاله, جامعا بين معلقة امرئ القيس وألفية ابن مالك في مكان وبين مقامات البديع ومقامات السيوطي في مكان آخر، وإما عالم أديب قد حال بينه وبين انتفاع المتأدبين بعلمه وفضله وسلامة ذوقه وصفاء قريحته أنه يبالغ في سوء الظن بأفهامهم, ويذهب في تقدير مداركهم مذاهب ما كان لمثله أن يذهب إلى مثلها فتراه يعمد في اختيار ما يختار إلى ما يزعم أنه القريب إلى أذهانهم اللاصق بعقولهم غير الملتوي عليهم ولا المتعثر بهم, فيتبذّل كل التبذّل ويسف كل الإسفاف ويورد في كتابه من قطع الشعر وجمل النثر ما يشبه أن يكون مادة للطفل في هجائه، لا مادة للأديب في بيانه، وسبيل كتب المختارات التي يراد منها غرس ملكة البيان في نفس المتأدب غير سبيل كتب العلم التي لا يراد منها غير حصول ما تشتمل عليه من قواعد العلوم ومسائلها في ذهن المتعلم، ولن تستقر ملكة البيان في النفس حتى يقف المتأدب بطائفة من شريف القول, منظومه ومنثوره وقوف المستثبت المستبصر الذي يرى المعنى بعيدا فيمشي إليه أو نازحا فيستدنيه أو محلقا فيصعد إليه أو متغلغلا فيتمشى في أحشائه حتى يصيب لبه ولا يزال يعالج ذلك علاجا شديدا ينضح له جبينه وتنبهر له أنفاسه حتى تتكيف ملكته بالكيفية التي يريدها، وما أرى هذه النكبة العامة التي أصابت الناشئين في ملكاتهم الكتابية وما رزئوا به من نضوب مادتهم اللغوية والنزوع إلى تلك المنازع الأعجمية في التصور والتخيل إلا أثرا من آثار تلك المختارات التي يجمعها لهم الجامعون جمعا محفوفا بالحذر والاحتياط, بل بما هو فوق ذلك من الخوف والوسواس فيستكثرون لهم من أبواب الحكم والأخلاق والمواعظ والزهد وأمثال ذلك مما لا يكاد يتراءى فيه قلب الشاعر, ولا تتجلى فيه نفس الكاتب ويفرون الفرار كله من كل ما يتعلق بوصف جمال الطبيعة أو جمال الصناعة أو تصوير عواطف النفوس وخوالجها في الخير والشر والعرف والنكر, كأنما يحسبون أن كل بيت غزل بيت ريبة وكل قصيدة خمرية حانة شراب، وما سمعنا من قبل ولا نحسب أن سيسمع السامعون من بعد أن متأدبا أفسده ديوان غزل أو أغراه بالشراب وصف خمر, لا بل إنما يرد ذلك على من يرد عليه منهم من فساد الخلطاء, أو ضلال المؤدبين.
أما الشعر المشتمل على وصف الجمال, والنثر المتضمن تصوير دقائق المعاني النفسية والخواطر القلبية ما دام بعيدا عن فاحش القول وهجره, فهو أعون الذرائع على تنمية ملكة الفصاحة والبيان في نفس الناشئ؛ لذلك لم أر بدا من أن أستخير الله تعالى في أن أجمع لك يا بني في هذا السفر من جيد المنظوم, والمنثور ما أعلم أنه ألصق بك وأدنى إليك وأنفع لك في تثقيف عقلك وتقويم لسانك وتحليل ما أسأرته الأيام من العجمة في قلمك ولسانك, فهززتُ لك دوحة الأدب العربي هزة تناثرت فيها هذه الثمرات الناضجة التي تراها بين يديك ولم أترك من ورائي في جميع ما تصفحته من دواوين الشعر ومجاميع الأدب وكتب المختارات إلا ما كان رديئا, أو مشوبا بشيء من هجر القول ومعيبه, أو بالغا من الشهرة والسيرورة منزلة لا يخطئها نظر الناظر, أو واقعا في منزلة بين الجودة والرداءة، وقد جعلت قاعدتي في الاختيار جمال الأسلوب أولا وجمال المعنى ثانيا, فربما أختار ما حسن لفظه وتوسط معناه, وقد أختار ما توسط لفظه وسما معناه كما صنعت في بعض مختارات قسم المنثور من الباب الأول وهو باب الفصاحة والبيان, ولكنني لا أختار بحال ما كان معناه ساميا ونظمه فاسدا، أما الجيد فقاعدته عندي ما يأتي: "كل كلام صحيح النظم والنسق إذا قرأه القارئ وجد في نفسه الأثر الذي أراده الكاتب منه, من حيث لا يجد فيه مسحة تدل على أن صاحبه يحاول أن يكون فيه بليغا, فهو بليغ" ولا أكتمك أني قد استجزت لنفسي ما استجازه لأنفسهم المختارون من قبلي فتصرفت في قليل من المختارات بعض التصرف بالتقديم والتأخير والاختصار والتلخيص والحذف، وقد لقيت في هذا السبيل وفي كل سبيل سلكته إلى جمع هذه المختارات عناء كثيرا لا أسألك يا بني عليه أجرا سوى أن تنتصح بما أنصحك به في كلمتي هذه، وهي أنك لن تستطيع أن تنتفع بهذه المختارات إلا بشروط ثلاثة: أولها: أن تملأ قلبك من الثقة بها, والسكون إليها حتى لا يصرفك عنها صارف ولا يخدعك عنها خادع، وثانيها: أن تقف بها وقوف الدارس المتعلم لا وقوف المتنزه المتفرج فلا يمنعك فهم ما فهمته من معاودته وترديد النظر فيه حتى ترشف فيه من الكأس ثمالتها ولا تصعب ما تصعب عليك من مراجعته والاختلاف إليه والتغلغل في أحشائه فإنك لا بد ماخض زبدته ومصيب لبه, وثالثها: أن تحمي نفسك النظر في هذه المخطوطات المختلفة التي تتجدد كل يوم أمام عينيك في أسفار هذا العصر وصحفه؛ فإن التربية الكتابية مثل التربية الأخلاقية يسري فيها الداء ثم يعوز الدواء، اللهم إلا ما كان من أمثال ما يكتبه الكتّاب وينظمه الشعراء الذين اخترت لهم في هذا الكتاب في المعاني التي عُرفوا بها وبرزوا فيها، فإن أخذت بنصيحتي وعنيت بها العناية كلها وكنت ممن رزقهم الله قريحة خصبة صالحة لنماء ما يغرس فيها من البذور الصالحة, بلغت ما أردت لك إن شاء الله تعالى.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)