المنشورات
حوانيت الأعراض:
أنا لا أستطيع أن أتصور الفرق بين رجل يمد يده إلى خزينة من خزائن بيتي فيسرق مالي, وبين آخر يمد لسانه أو قلمه إلى شرفي فيستلبه، كلاهما مجرم فاتك وكلاهما لص مغتال، وإن كان أولهما في نظر القانون وفي نظر الناس أكبرهما إثما, وأسوأهما أثرا.
المال خادم من خدام الشرف وحاجب من حجابه الوقوف على بابه، ولولا مكان الشرف والكلف بصيانته والضن به أن يعبث بجوهره عابث ما كان لامرئ في هذا المعدن الصامت أرب أكثر من أن يقيم به صلبه ويمسك به حوباءه، فإن كان سارق المال مجرما من حيث كونه هاتكا لذلك الستار المسبل دون الشرف, فجدير بمن يسرق الشرف نفسه أن يكون رأس الجانين، وأكبر المجرمين.
يكون للرجل من الصحفيين مثلا عند الرجل من كرام الناس وسراتهم وذوي السيرة الصالحة فيهم مأرب من المآرب التي لا يعرف لنفسه فيها حقا, ولا يمت إليها بسبب من الأسباب الظاهرة أو الباطنة, فما هو إلا أن يمتنع عليه حتى يرميه بسهم جارح من مريشات سهامه يصيب به مقتلا من شرفه، ولا ذنب له عنده إلا أنه لم يمكنه من لحيته يلف عثنونها حول أصابعه, ثم يقوده بها إلى حيث شاء كما يقاد التيس إلى مربعه.
يحب الرجل المجد حبا يملأ ما بين جوانحه ويغري به حتى يصبح آثر في نفسه من نفسه التي بين جنبيه، ويظل يقضي سواد لياليه يساهر الكوكب حتى ينحدر إلى مغربه، ويطوي بياض نهاره بين شمس تحرق عارضيه، وحصباء تمزق قدميه، ويقيم بينه وبين شهوات نفسه ونزعات قلبه حربا عوانا يحمل في سبيلها ما لا يستطيع أن يحمله بشر كلفا به ووجدا عليه، وحتى إذا أمكنه المقدار منه وبدأ ينهل أول نهلة من مورده البارد العذب رآها ممزوجة بذلك العلقم المر مما صبه له في إنائه ذلك المجرم الأثيم.
إن بين جدران بعض قاعات الصحف قوما مفاليك قد دارت عليهم الأيام دورتها, وسلبتهم المواهب التي يعيش بها أمثالهم ممن ولد مولدهم, ونشأ في تربتهم فضاقت بهم سبل العيش التي ما كان تضيق بهم لو أن الله أبقى لهم بعد أن سلبهم فضيلة الفهم والعلم مزية العمل الصالح والسيرة المستقيمة، فلما لم يجدوا بين أيديهم منفذا ينفذون منه إلى القوت, فتحوا حوانيت للتجارة بأعراض الناس سموها صحفا, وأكثر مشتملات حوانيتهم من تلك البضاعة أعراض الأشراف والعظماء وأرباب الجد والعمل الذين سبقوهم إلى فردوس السعادة, وخلفوهم وراءهم يتأكلون غيظا لحرمانهم مما قسم الله لهم، فهم إن فتشت عنهم وكشفت عن دخائل نفوسهم علمت أن لا فرق بينهم وبين أولئك الفوضويين الذين يدينون بقتل العظماء والأمراء، وأستغفر الله فللفوضويين مبدأ منظم يتقلدونه ورأي في تلك الجرائم على ما به من خطل يتمذهبون به من حيث كونه عقيدة ثابتة لا تجارة رابحة، بل هم كقطاع الطريق الذين يهاجمون الغادين والرائحين ولا ذنب لهم عندهم إلا أنهم مزوّدون, وهم مقفرو الأيدي من الزاد.
ولقد كان يكون خطبهم سهلا ومصابهم محتملا لو أنهم صرحوا عن أنفسهم وأبدوا للناس صفحات وجوههم, وطلبوا قوتهم من طريق الكدية الواضحة البينة، ولكنهم مراءون مخادعون يشتمون باسم الموعظة ويقرضون الأعراض باسم النصيحة ويتهمون الأبرياء باسم الغيرة الدينية ويملئون فضاء الأرض والسماء كذبا وابتداعا وتدليسا وتضليلا باسم الوطنية، ووالله ما بهم من وطنية ولا دين ولا عظة ولا نصيحة ولكنهم قوم محدودون قد بلغت الفلاكة من نفوسهم مبلغها وضاقت بهم الأرض الفضاء على رحبها, فهم يروحون عن نفوسهم بالنيل من شرف الشرفاء وتنغيص لذة السعداء، ويطلبون قوتهم فيما بين ذلك من يد تلك الفئة الساذجة من الأمة التي لا تستطيع أن تفرق بين أشراف الصحافة والدخلاء فيها, وبين الكاتب الذي يكتب ليقوم معوجا أو يصلح مختلا أو يرفع بدعة باطلة أو يكشف حقيقة خافية, والآخر الذي يدور مع الدينار دورة الحرباء مع الشمس صعودا وهبوطا, والذي لا يلذه شرب الماء إلا ممزوجا بالدماء، ووالله ما أدري من الذي أقامهم هذا المقام وعهد إليهم بهذا العهد, ومن الذي وكل إليهم النظر في شئون الناس والفصل في قضاياهم والقيام على حسناتهم وسيئاتهم وما هم البررة الأتقياء الذين يصلحون أن يكونوا أمثلة حسنة في منازلهم فيكونوا قدوة صالحة في أمتهم، ولا بالعلماء الفضلاء فنهتدي بهداهم ونترسم مواقع أقدامهم، ولا بالصادقين المخلصين الذين يؤثرون أمتهم على أنفسهم فنتعبد بإجلالهم وإعظامهم، بل ليس لواحد منهم فضل الصانع في مصنعه ولا التاجر في حانوته, فضلا عن الوزير في كرسيه والأمير في عرشه, فيصلح أن يكون حكما بينهم وميزانا لحسناتهم وسيئاتهم، وعندي أن لو جمعت عيوب الناس جميعها في كفة ميزان ووضعت في الكفة الأخرى عيوبهم الجامعة للسفاهة والكذب والنميمة التجسس وهتك الأعراض واتهام الأبرياء واستهواء الضعفاء, لثقلت كفتهم أمام كفة الذين يزعمون أنهم يقومون معوجهم, ويصلحون فاسدهم.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)