المنشورات

الشهيدتان:

لم تغتمض عيناي ليلة أمس؛ لأنني بت أسمع في الدار اللاصقة لبيتي أنين امرأة متوجعة تعالج هما ثقيلا وتشكو مرضا أليما, وكان يخيل إلي أني لا أسمع بجانبها معللا يعللها, ولا جليسا يتوجع لها فلما أصبح الصباح ذهبت إليها فإذا قاعة صغيرة مظلمة تكاد لا تشتمل على أكثر من سرير بالٍ يتراءى فوقه شبح ماثل من أشباح الموتى, فترفقت في مشيتي حتى دنوت منها وكأنها شعرت بمكاني, فحركت شفتيها تطلب جرعة ماء فأسعفتها بها, فاستفاقت قليلا ثم تقدمت نحوها أسائلها عن خطبها فأنشأت تقص علي قصتها بصوت خافت متقطع, كنت أكاد أنتزعه منها انتزاعا وتقول:
زوجني أبي منذ سبع سنين من رجل مزواج مطلاق لا يكاد يصبر على امرأة واحدة عاما واحدا, ولو كان لفتاة أن تستبد بأمرها من دون أوليائها لأحسنت الاختيار لنفسي, بل لو لم يكن في الأمر إلا أن أتبتل أو أصير إلى هذا المصير لكان لي في الرهبانية رأي غير ما يراه فيها النساء، ولكنني عجزت فأذعنت وزُففت إليه, فاستقبلني بأحسن ما يستقبل به الزوج الكريم أحظى نسائه عنده وأكرمهن عليه، فكان يريبني من ذلك ما يريب الفريسة من ابتسامة الأسد وكنت أنتظر يوم الفراق كما ينتظر القاتل يوم القصاص، فما أفقت من صرعة النفاس حتى علمت أنه خطب فتزوج فبنى وأني أصبحت في المنزل وحيدة لا مؤنس لي إلا طفلتي الصغيرة, فجزعت عند الصدمة الأولى ثم نزلت على حكم القضاء الذي لا أملك رده ولا أعرف وجه الحيلة فيه، واحتملت طفلتي إلى بيت أبي فوجدته مريضا مشرفا, فبكى رحمة بي واستغفرني من ذنبه إلي فغفرته له، وما هي إلا أيام قلائل حتى مضى لسبيله مفجوعا برزئي ورزئه, فعلمت أن الدهر قد سجل علي في جريدة الشقاء أياما طوالا لا أعلم متى يكون انقضاؤها, ولا أدري ما الله صانع فيها، فظللت أستكتب الناس الكتب إلى ذلك الرجل أسأله القوت لأستعين به على تربية طفلته أو التسريح عسى أن يبدلني الله خيرا منه زكاة وأقرب رحما, فضن بالأولى واستعظم الأخرى, فلم أر لي سبيلا غير سبيل العمل, فلبثت بضع سنين ساهرة الليل قائمة النهار, أستقطر الرزق من سم الخياط فلا أكاد أبلغ منه الكفاف حتى بلغ مني الجهد, فدهيت بمعضلة من الأدواء خرجت لها عن كل ما أملك من حلية وذخيرة وكسوة وآنية وأصبحت لا أملك درهما أبتاع به قارورة الدواء, ولا أجد مزقة أمسك بها قوائم هذا السرير المضطرب، وما قنع الدهر مني بذلك حتى رماني بالداهية الدهياء التي يصغر في جانبها كل عظيم من خطوبه ونكباته، فقد كتبت إلى والد الفتاة منذ شهر أصف له حالتي وأفضي إليه بذات نفسي, وأسأله أن يمدني وابنتي بقليل من القوت نمسك به تلك الصبابة التي أبقتها خطوب الأيام ورزاياها من أعظمنا وجلودنا, ولبثت أترقب رجع الكتاب كما يترقب الغريق سواد السفينة, فإني لجالسة في هذا المقعد أعد على الدهر ذنوبه إلي وسيئاته عندي فلا أفرغ من عقد إلا إلى عقد, ولا أنتهي إلا إلى حيث أبتدئ وقد جلست طفلتي بين يدي أتطلع إلى وجهها الساطع في ظلمات تلك الخطوب كما يتطلع الملاح في ظلماته إلى نجمة القطب إذا هجم علي ذلك الظالم الجبار فاختطف ابنتي من بين يدي من حيث لا أملك دفعا لما نابني, ولا أجد ما أذود به عن نفسي إلا زفرات لا يسمعها سامع وعبرات لا يرحمها راحم، فشعرت كأن أسهم الدهر التي كانت تروغ ههنا وههنا قد أصابت في هذه المرة المقتل, فبت ليلتي تلك كما يجب أن تبيت امرأة بائسة معدمة فجعها الدهر في نفسها بعد أن فجعها في زوجها وأبيها وولدها, فأصبحت لا تجد أمامها يدا تنبسط إليها ولا عينا تبكي عليها، وقد مر بي بعد ذلك نيف وعشرون ليلة لا يرقأ لي دمع ولا يهدأ بي مضجع، حتى إذا اختلست من يد الظلام نعسة تراءت لي الفتاة كأنها في فراشها مريضة تهتف باسمي, وكأن أباها يوسعها ضربا وتعذيبا وكأنني أحاول أن أستنقذها فلا أجد إليها سبيلا، وها أنا ذا أشعر أن سحابة الموت السوداء تغشّي على بصري, وأنني مفارقة هذا العالم قبل أن أنظر إلى فتاتي نظرة أتزودها في سفري إلى تلك الدار.
وما وصلت من حديثها إلى هذا الحد حتى جرضت بريقها وحشرجت أنفاسها وشطر بصرها فجثوت عند سريرها أدعو لها الله أن يعينها على أمرها, ويمدها برحمته وإحسانه، فإني لكذلك وقد استغرقت في هذا المشهد الذي بين يدي استغراق العابد في هيكله إذ رأيت في خلال الدموع التي كانت تزدحم في عيني شبحا منتصبا عند باب الغرفة, فتأملته فإذا رجل يحمل بين يديه فتاة صغيرة فتقدمت إليه فرأيته خاشعا مستكينا ينظر إلى تلك التي يحملها نظرات الوجد والرحمة, ورأيت الفتاة كأنها خرقة بالية ملقاة لا يتحرك لها عضو, ولا ينبض منها عرق فقلت: من أنت وماذا تريد؟ قال: أنا زوج هذه المرأة ووالد هذه الفتاة، قلت: لعلك جئت تستغفر هذه البائسة المسكينة من ذنبك إليها في التفريق بينها وبين ابنتها، قال: يا سيدي, ما زالت الفتاة منذ فارقت أمها تبكي عليها بكاء مرا, وتهتف باسمها في يقظتها ونومها حتى سقطت مريضة لا ينفعها طب ولا ينجع فيها دواء، فلما رأيت أنها وصلت إلى الحالة التي تراها جئت بها إلى أمها, أرجو أن تجد بين ذراعيها شفاء من دائها، قلت: ذلك موكول إلى القضاء ولا يعلم الغيب إلا الله، ثم تقدمت نحو الفتاة فرأيتها تجود بنفسها فاحتملتها برفق حتى وضعتها بين ذراعي أمها, فما هو إلا أن هتفت الفتاة بأمها والأم بفتاتها حتى فاضت نفساهما معا, كأنما كانتا من الردى على ميعاد.
الآن وقد عدت من دفن الشهيدتين وجلست لكتابة هذه السطور, أشعر أني لا أكاد أمسك قلمي من الاضطراب, ولا مدمعي عن الانفجار حزنا على تلك البائسة المسكينة, لا بل حزنا على جميع البائسات من النساء اللواتي يقتلهن الرجال كل يوم صبرا من حيث لا يجدن راحما يأخذ بأيديهن، ولا ثائرا يثأر لهن.

















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید