المنشورات

ليلة في التمثيل:

من أراد أن يعرف الأخلاق العامة المصرية كما هي فليزر دار التمثيل العربي؛ فإنه يرى هنالك ما تفرّق من أخلاق هذه الأمة وغرائزها وميولها وأهوائها مجتمعا في بقعة واحدة.
زرتُ تلك الدار ليلة أمس وكثيرا ما أزورها؛ لأني أحب التمثيل حبا يكاد يساوي حبي للشعر والموسيقى والجمال، فبدا لي أن أكون في تلك الليلة فيلسوفا أكثر مني متفرجا، أي أن أكون متفرجا على المتفرجين، ومطلعا على المطلعين، فكانوا جميعا يشاهدون ملعبا واحدا وكنت أشاهد وحدي ألف ملعب, لا يقل كل واحد منها عن ملعبهم غرابة وإبداعا.
كان الزحام في تلك الليلة شديدا؛ لأن الأدباء يعجبهم من رواية روميو وجوليت ذلك الأسلوب الفصيح والترتيب البديع الذي انفرد به المرحوم الشيخ نجيب الحداد من بين كتاب الروايات ومترجميها، ولأن العاشقين يهمهم منها أن يروا فيها مواقف العناء والشقاء التي وقفها روميو وجوليت ليتخذوا منها لأنفسهم تعزية عما يلاقونه في أمثال هذه المواقف من عناء وشقاء، ولأن النساء يطربهن منها منظر جوليت وهي قتيلة مخضبة بدمها ليجدن السبيل إلى الشماتة بها, والسخرية بضعف حيلتها وعجزها الذي كان سببا في حرمانها من سعادتها وحياتها، فكأنهن يقلن لها: لو كنا مكانك أيتها الفتاة الحمقاء لما بذلنا حياتنا في سبيل رجل لا يفوتنا حظنا من غيره إن فاتنا حظنا منه.
وبالجملة: فقد كان أصحاب الأغراض المختلفة في هذه الرواية كثيرين جدا, وكانوا إذا اشتركوا في هتاف أو تصفيق دوى لهم في أرجاء القاعة صوت يصدع الرءوس ويؤثر في أعصاب السمع تأثيرا سيئا، فكنت إذا شرع المغني في نشيد وترقب الناس النغمة الأخيرة بتشوُّق وتلهف ترقبتُها بخوف وجزع؛ لأني لا أحب أن تكون آخر نغمة أسمعها في حياتي.
رأيت فيما رأيت في ذلك المعرض العام أن عامة المصريين يحبون التصفيق حبا جما, ويتهالكون وجدا عليه.
رأيت من كان يصفق حتى تحمرَّ كفاه وتكادا تبضان دما, ومن كان يضرب الأرض بقدميه حتى يكاد يجمد الدم في عروقهما.
رأيت ملكة التقليد آخذة من نفوسهم مأخذها؛ لأنهم ما كانوا يصفقون في مواقف الاستحسان جميعا بل كان يبتدئ أحدهم فيقلده الجالسون حوله, ثم يسري التصفيق تدريجيا بين الجميع، ولقد رأيت من استغرق في الضحك حتى كاد يسقط عن كرسيه ثم سمعته يسأل بعد ذلك جليسه: مم تضحكون؟
ولقد كنت أحسب أنهم لا يصفقون إلا في مواطن الاستحسان كما هو الشأن في ذلك, فإذا هم يصفقون لكل مشهد من المشاهد المؤثرة مفرحا كان أو محزنا, هزلا أو جدا, فصفقوا لمنظر جوليت وهي تتجرع السم, وصفقوا لمنظر روميو وهو يتحرق وجدا حينما فاجأه الخبر بموتها.
أما النساء فملأن خدورهن ضحكا عندما سقط روميو قتيلا, ولا أعلم لذلك سببا إلا أن تكون عداوة الجنسية وحب الانتقام.
أما آداب الاستماع فلا تسل عنها؛ لأنك لا ترى في جوابي ما يسرك، وأي منظر يروقك من مجتمع ما اجتمع في مثل هذا المكان إلا للاستماع ثم لا ترى بينه إلا مصفقا أو هاتفا أو راكضا أو ضاحكا أو صارخا أو مصفرا أو ماضغا أو متكلما، وكان يكون ذلك هينا لو وقع بين الفصل والفصل أو المنظر والمنظر أو الجملة والجملة, ولكنه يقع مطردا حيثما اتفق, وكيفما بدا. 
وبعد, فقد استنتجت من منظر ذلك المعرض العام أن للجمهور المصري ثلاثة أخلاق هي ألزم من ظله وألصق به من نفسه: يحب التقليد ويحب الهزل ولا يستطيع أن يصبر عن إظهار ما تتأثر به نفسه من حزن, وسرور لحظة واحدة.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید