المنشورات

سياحة في كتاب:

أعجب ما أعرف من أمر نفسي أني أحب الجمال خيالا أكثر مما أحبه حقيقة, فيعجبني وصف الروض أكثر مما يعجبني مرآه ولا أطرب لمنظر الفتيات الجميلات طربي لمنظر القصائد الغزليات، وأحب أن أسمع وصف المدن الجميلة وأن أقرأ ما يكتبه الكاتبون عن رياضها ومنازلها وقصورها ودورها وسهولها وبطاحها وأنهارها وجداولها وميادينها وتماثيلها وأنديتها ومجامعها ولا يهمني أن أراها، كأنني أريد أن أستديم لنفسي تلك اللذة الخيالية وأخاف أن تحول الحقيقة بيني وبينها، وأحسب أني لو كنت عاشقا لأصبحت أضحوكة العاشقين وأعجوبة الهازئين والساخرين، وكان يكون مثلي مثل ذلك الرجل الذي أحبَّ امرأة فاستزارها فمانعته حينا ثم زارته, فلما رآها تركها وذهب لينام, فعجبت لشأنه وسألته: ما باله؟ فقال لها: أريد أن أنام علَّني أرى طيفك في المنام. 
جاء يوم شم النسيم فخرج الناس إليه يستقبلونه استقبال الجيش المدجج، للملك المتوج، ويرحبون به ترحيب العشاق، بيوم التلاق، بعد طول الفراق، ويبسمون له ابتسام الرياض الزاهرة، للسحب الماطرة، وقد ذهبوا في شأنه المذاهب كلها؛ فمن صاعد إلى رءوس الجبال، وسارب في سهول الرمال، وواقف موقف الإعجاب والإجلال، بين جمال الأنوار وأنوار الجمال، ومقلب طرفه بين حسن الزهرات، وحسن الفتيات، ولا يعلم أتشبه القامات الغصون أم الغصون القامات.
ذهب الناس في ذلك اليوم تلك المذاهب وما كان لي أن أذهب مذهبهم؛ لأني لا أعجب بما يعجبون، ولا أسر بما يسرون، فقبعت في كسر بيتي أبحث عن ضالة خيال أجد فيها من السعادة والهناء ما يجده الهائمون بين ثغر الحسناء وثغر الصهباء، فلمحت بجانبي كتاب بلاغة الغرب وهو الكتاب الذي ترجمه بعض فضلاء الكتَّاب, وجمع فيه نفائس اللغة الفرنسية وزبدة ما جادت به قرائح كتابها وشعرائها فقلت: حسبي من الرياض هذه الزهرات، ومن النسائم تلك النفحات.
خطوت الخطوات الأولى من سياحتي في هذا الكتاب فرأيتني واقفا تحت نافذة قصر اللوفر في باريس, ورأيت الناس وقوفا في ذلك الميدان الفسيح وقد ماج بعضهم في بعض، حتى ضاقت بهم رقعة الأرض، ورأيتهم يمدون أعناقهم إلى تلك النافذة وينظرون إليها نظر المنجم في الأسطرلاب، ويرقبون منها ما يرقب الروض من غادية السحاب، وإنهم لكذلك وإذا نابليون الأول قد أطل من نافذة قصره كما يطل البدر من وراء الأفق يحمل بين يديه طفله الصغير كما يسميه الناس وملك روما كما يسميه أبوه, فضج الناس لمطلعه ضجيجا ملأ مسمع الخافقين، وابتسموا لمرآه ابتساما أضاء ما بين المشرقين والمغربين، وهنا سمعت الشاعر الكبير1 يخاطب ذلك الملك العظيم بصوت يشبه صوت البحر الزاخر قائلا له:
رويدا أيها الرجل المغرور بالتاج والسرير، والملك الكبير، والجيش الخاضع، والشعب الطائع، أنت تقدّر لطفلك في مستقبل الأيام ملكا كملكك، ومجدا كمجدك، وعزا وسلطانا كعزك وسلطانك، غير عالم بما تكتمه ضمائر الأيام، من الحوادث العظام، والخطوب الجسام، هل أخذت على الأيام عهدا لنفسك فتأخذه لولدك؟ وهل وثقت بما في يدك فتثق بما في يد غيرك؟
أيها الملك المغرور، إنك ستفارق عما قليل هذا القصر الكبير، إلى ذلك الكوخ الحقير، وسيحيط بك الجند في منفاك إحاطة الإخضاع والإذلال لا إحاطة الإعظام والإجلال، وسيموت ولدك محروما هذا العرش الذي هيأته له بل محروما بضعة أشبار من تربة فرنسا يضطجع فيها ضجعة الموت.
أيها الملك المغرور، لا تقل: إن المستقبل لي فإنما المستقبل لله، تركت هذا الموقف الفخم الجليل وقد امتلأت نفسي عبرة بمصائر الأيام، ومصارع الكرام، وتقلبات الدهور ما بين رفع وخفض، وإبرام ونقض، ومشيت حتى وصلت إلى برية جرداء، ودوية قفراء، لا يطرقها إنسان، ولا يدب بها حيوان، فلمحت على البعد رجلا يمشي عى شاطئ بحر فوق أرض رملية يخدع ظاهرها، ويقتل باطنها، ويدب الماء في أحشائها دبيب الصهباء في الأعضاء، ويكمن في صدرها كمون الأسرار في صدور الأقدار.
فما هي إلا بضع خطوات حتى رأيت الرجل المسكين, وقد غاصت قدماه في الرمل فحاول نزعهما فغاص إلى ركبتيه, فتحلحل فغاص إلى صدره، وما زال يساعد على نفسه بمنازعته ومحاولته حتى لم يبق له فوق الأرض غير فم يصرخ بالنداء، وعين تذرف بالبكاء، ثم ما لبثا أن غطاهما الرمل فرفع يديه بالدعاء، فلم يجد من رحمة في الأرض ولا في السماء.
وقفت بين يدي هذا المشهد المؤثر المحزن وقفة أرسلتُ فيها قطرات من الدموع على هذا البائس المسكين, وقلت في نفسي: إنني قد عجزت عن إسعاده في نكبته، ومعونته في شدته, فلا أقل من أن أسعده بقليل من الزفرات, ووشل من العبرات.
ثم فارقته ومشيت حتى بلغت منزل الشاعر لامارتين, فرأيته جالسا في غرفته وليس معه في منزله من يؤنسه غير كلبه, فسمعته يخاطبه ويقول له:
أيها الكلب الأمين، قد هجرني الناس وبقيتَ بجانبي، وخانني الأصدقاء ووفيت لي، فأنت في نظري أوفى الأوفياء، وأصدق الأصدقاء، ولولا أنك كريم الأخلاق متواضع تأبى إلا أن تعرف لسيدك منزلته من السيادة عليك وتحفظ له فضل ما أسدى من النعمة إليك لأكبرت جلستك هذه عند عتبة الباب ولأجلستك بجانبي؛ لأنك صديقي ومؤنسي، ولأنك أحق بالإكرام من كثير من أولئك الذين يفترشون الطنافس ويتوسدون الوسائد، حسبي منك نظراتك التي تنظر بها إليَّ بود وإخلاص وكأنني أشعر حينما أراك تحدِّق بي أنك تفتش عن سريرتي في أسرَّتي، وتقرأ في صفحة وجهي ما غاب عنك من دخيلة أمري، وكأنني أسمعك تقول: ما باله وما شأنه؟ وما الذي يحزنه وما الذي يبكيه؟ حسبي منك ذلك، وهل يجد الإنسان من أوفى أصدقائه أكثر مما أجده في لفتاتك وألمحه في نظراتك من الاهتمام بأمري والعناية بشأني والحزن لحزني والبكاء لبكائي؟
سمعت لامارتين يناجي كلبه بهذا النجاء الرقيق, فانسللت وذهبت لشأني وأنا أقول في نفسي: إذا كان لامارتين وهو أشعر شاعر في فرنسا وفرنسا مهبط وحي الشعر, لم يجد له صديقا وفيا غير كلبه المقعى على عتبة غرفته, فأين يذهب سائر الشعراء, ومتى يجدون الأصدقاء؟
تركت منزل لامارتين وذهبت إلى منزل دي موسيه, فرأيته معتزلا في غرفة من غرف منزله يبكي بكاء مرا ويزفر زفيرا تكاد تتقطع له أحشاؤه فقلت: ليت شعري ما أبكاه، وما الذي دهاه، فسمعته يترنم بقصيدة من قصائده يشرح فيها تاريخ وجده, وهواه شرحا مؤثرا مؤلما حتى خيل إلي أن كل بيت من أبياتها جذوة نار ملتهبة وسمعته يشكو فيها من خيانة حبيبته "جورج صاند" ويعالج نفسه على أن يسلوها ويتناسى عهدها وذمامها فلا يجد إلى ذلك سبيلا، وما هو إلا أن أتم قصيدته حتى تغير لونه وشخص بصره واضطرب اضطراب الأغصان اليابسة، بين أيدي الرياح العاصفة، ثم أخذ يهذي هذيان المحموم ويخلط في كلامه خلطا شديدا, فعلمت أن الرجل قد جُنّ وأن العالم الشعري قد فُجع فيه، فمضيت لسبيلي وأنا أسأل الله العافية وأقول: إن جمال المرأة أحقر من أن يقتل أوفر عقل وأعجز من أن يطفئ أكبر قريحة, ولكنها الأقدار تجري بحكمها علينا, وأمر الغيب سر محجب.
تركت منزل دي موسيه ومشيت في شارع من شوارع باريس, فرأيت شيخا رث الثياب زري الهيئة يمشي مشية هادئة مطمئنة ويجر في رجليه نعلا بالية قد أطلت أصابعه من خروقها كما تطل الحيات من أحجارها, فأتبعته نظري فرأيته لا يرفع طرفه سكونا وإطراقا ولا يحرك عضوا من أعضائه رزانة ووقارا, فقلت في نفسي: إن لهذا الرجل شأنا فمشيت وراءه حتى رأيته قد وقف على باب حانوت إسكاف فلم يجد صاحب الحانوت في مكانه فجلس على الأرض ينتظره حتى يعود فيخصف له نعله, فسألت بعض المارة عنه فقال: هذا "كورني" شاعر فرنسا, فأخذتني الدهشة وملكني العجب حتى كاد يحول بيني وبين عقلي, فقلت في نفسي: ويح لكم معشر الناس، أتضنون بقطعة من الجلد الأسمر على رجل يقلد أعناقكم الدر والجوهر؟! أعجزتم عن أن تجمعوا أمركم على أن تمسحوا هذه الغصون عن تلك الجبهة التي تجود عليكم كل يوم بما يفرج كربتكم، وينعش نفوسكم، ثم رجعت أدراجي وأنا أقول: كأن قضاء حتما على الدهر ألا ينيل هؤلاء الأدباء من دهرهم ما يريدون، ولا يمنحهم من العيش ما يشتهون.
إن في جلسة لامارتين منفردا في منزله لا مؤنس له غير كلبه, وفي عزلة دي موسيه في غرفته وخلوته ببكائه ونحيبه, وفي ضجعة كورني أمام حانوت الإسكاف لآية للمتفكرين، وعبرة للمعتبرين.
الآن عدت من سياحتي في ذلك الكتاب أشكر للكاتب ما كتب, وللمترجم ما ترجم وأقول: من لي في كل يوم بسياحة مثل هذه السياحة في كتاب مثل هذا الكتاب؟














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید