المنشورات

البعث:

هي قصة خيالية, الغرض منها تمثيل أبي العلاء المعري في أخلاقه وآرائه لم يكتب منها غير هذه الأيام الثلاثة، وقد نشر في الذيل من كلام أبي العلاء عند المناسبات ما يميز بين الحقائق التاريخية والتصورات الخيالية.
"اليوم الأول":
نبا بي مضجعي ليلة لهمّ نزل بي والهم رسول من رسل الشر ينزل بأهداب العيون, فلا يزال يسعى سعيه حتى يوقظ الفتنة بين أشياعها، فظللت أساهر الكوكب حتى ملني ومللته وضاق كل منا بصاحبه ذرعا، فلما تقضى الليل إلا أقله ولم يبق إلا أن تنفرج لمة الظلام عن جبين الصباح سمعت طارقا يدق الباب دقا ضعيفا ما كدت أتبينه لولا هدوء الليل وسكونه، فقلت: من الطارق؟ قال: غريب حائر ضل به سبيله في هذه الرقعة السوداء, وأعوزه المأوى يطلب كريما يعتمد عليه، ومضجعا يأوي إليه، وقد أعد لمن يسدي إليه تلك النعمة ذخيرة صالحة من شكر لا يبلى ودعاء لا يخيب، فأعجبت بعابر سبيل يمر بعفو لسانه من فصيح القول وصحيحه ما يعيا على جهد المتكلفين، وتزويق المزورين1، وقلت في نفسي: ما لهذا الرجل بد من شأت وفتحت الباب فإذا شيخ كنتيّ2 من حملة أعباء الدهر, قصير القامة ناحل الجسم زري الهيئة قد نيف على الثمانين من عمره, فخيل إلي أن ظهره المحدودب قوس وأن عصاه التي يعتمد عليها وتر قد شد إلى تلك القوس, وأنه قد أعد من هذه وتلك سلاحا يذود به عن نفسه عادية المنون3، فلما شعر بمكاني رفع رأسه إلي ورماني بنظرة خلت أنها نفذت إلى موضع الأسرار من قلبي وأحاطت بما بين قمة رأسي وأخمص قدمي, فرأيت وجها أسمر اللون قد انتثرت في أكنافه حفائر الجدري4 وأسارير تنطوي تارة على عبر القرون وحوادث الدهور وتنفرج أخرى عن أنوار الصلاح والتقوى، ولحية بيضاء إلا أنها شعثاء، وعينين كبيرتين مستديرتين ينبعث منهما نور ساطع خفاق لا يراه الرائي حتى يطرق له إجلالا وإعظاما، وسحنة غريبة لا عهد لي بمثلها في حمراء الأمم وسودائها وأحسب أن لو كان بين يدي مثال من صور الناس في القرون الغابرة لنسبتها1, فمشيت إليه مشية الهائب الوجل وقلت: على الرحب والسعة يا سيدي, لقد حللت بمنزل أنت صاحبه وولي الأمر فيه، ثم قدمت إليه يدي فمشى معي يتوكأ, ويتحامل ويهمس بهذه الكلمة:
ما أوسع الموت يستريح به الجسـ ... ـم المعنى ويخفت اللجب
حتى وصلنا إلى غرفة الأضياف, فأعاد النظر إلي وقال: اذهب لشأنك فأنا في حاجة إلى الانفراد بنفسي، فتركته وذهبت إلى غرفة منامي وقد أخذ منظر الرجل مكانا من قلبي وشغلني من أمره ما كاد ينسيني هموم نفسي, فلم أزل أقلب النظر في حاله وأذهب المذاهب في استبطان سره حتى أخذ عيني نوم ثقيل لم أستيقظ منه إلا في صفرة الأصيل.
سألت الخادم عن الضيف, فعلمت أنه أخذ حظه من المطعم والمشرب والمضجع والمستحمّ وأنه لا يزال في مصلاه, فهبطت إليه في خلوته أهيب ما أكون له, فرأيته جالسا إلى قبلته يقلب وجهه في السماء، ويكرر هذا الدعاء:
"اللهم لا راد لقضائك، ولا سخط على بلائك، أمرت فأطعنا وابتليت فرضينا، فأمطرنا غيث إحسانك, وأذقنا برد رحمتك، وألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، إنك أرحم الراحمين وأعدل الحاكمين"1.
ثم أطرق بعد ذلك إطراقا طويلا خلتُ أنه وصل فيه إلى مقام التجريد, وأن الذي أراه بين يدي جسد هامد قد أسرى بروحه إلى الملأ الأعلى, فجعلت أختلس الخطا إليه حتى صاقبته، فرفع رأسه إلي ذاهلا، وقال: أنت هنا؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة نحن من تاريخ الهجرة؟ فعجبت لسؤاله وقلت: في السنة التاسعة والعشرين بعد الثلاثمائة والألف، قال: ما اسم هذا المصر الذي تعمرونه؟ قلت: القاهرة المعزية، قال: أفي هذه الأمة كثير مثلك؟ قلت: لم أفهم ما تريد يا سيدي، قال: لقد استفتحت هذه الأبواب التي تليك فلم أجد من ورائها إلا ضعيفا لا يلبث أن يراني حتى يرعد مني فرقا فيوصد بابه في وجهي، أو ضنينا يرى بؤسي وشكاتي فيزوي ما بين حاجبيه ثم ينصرف عني، أو أعجميا لا يفهم ما أقول ولا أفهم ما يقول، قلت: ما في هذه الحلة التي تراها أعجمي قال: إنهم خاطبوني بلحن لا أعرفه وإن شئت أعدته عليك كما سمعته، ثم أخذ يسرد علي الكلمات العامية التي سمعها من الناس في طريقه إلي سردا متواصلا كما تسرد الببغاء كلماتها، فقلت: إنك قد أعدت يا سيدي بذكائك هذا عهد أبي العلاء المعري, فإنهم يتحدثون عنه أنه كان إذا سمع أعجميا يتكلم حفظ كلامه بدون أن يفهم معناه1 فما سمع كلمتي هذه حتى اضطرب جسمه وانكفأ لونه2 ورأرأ بمقلتيه3 وزحف إلي حتى اصطكت ركبتانا، فعجبت لأمره وما رأيت من استحالة حاله، ثم قال لي: من هو هذا المعري الذي حدثوك عنه؟ قلت: رجل من علماء الأمة العربية وشعرائها, عاش في القرن الرابع والخامس من الهجرة, نقرأ سيرته في كتب التاريخ والأدب ونعجب بفهمه وعلمه وذكائه كل الإعجاب، قال: وما ظنكم به؟ قلت: إن الناس في أمره مختلفون، ومن يرفضه أكثر ممن يتشيع له، قال: ومن أيهم أنت؟ قلت: ممن يتشيع له، فقد قرأت كتبه قراءة مستثبت مستبصر فما شككت في مذهبه ودينه، قال: أكنت تؤثر أن تكون في عصره أو أن يكون في عصرك حتى تراه؟ قلت: ما أعدل بهذه الأمنية غيرها، قال: قد بلغك الله طلبتك، قلت: لم أفهم يا سيدي شيئا مما تقول، قال: أكاتم أنت علي سري؟ قلت: نعم، قال: أتقسم؟ قلت: إن للوفاء عندي حرمة مثل حرمة القسم ولو كنت متهما نفسي لأقسمت، قال: الآن عرفتك, أنا أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري، فما قرعت هذه الكلمة مسمعي حتى أُسقط في يدي وعلمت أني قد هلكت، وكان أول ما كان مني أن التفت ناحية الباب لأرى هل أجد السبيل إلى الهرب إن عرض لي من هذا المجنون عارض سوء، وكأنه ألم بما في نفسي فقال: لا ألومك على ما ظننت فقد قدرت قبل أن ألقي إليك كلمتي هذه أنها بالغة منك ما بلغت فهل تؤمن بالله؟ قلت: نعم، قال: وتؤمن بالبعث؟ قلت: نعم، قال: وما يريبك من رجل أماته الله ثم بعثه بعد موته؟ قلت: ذلك يوم يبعثون، قال: هبها قصة إبراهيم إذ قال له ربه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} وبعد, فوالله يا بني ما كفرت مذ آمنت, ولا كذبت مذ عرفت أن الصدق منجاة من النار, ولا استرد الله مني نعمة العقل بعدما منحني إياها ولو كذبت الناس جميعا ما كذبتك, فقد أسلفت إلي من أياديك ما لا أحتاج بعده إلى كذبة أتنفّق بها عليك، أو أزدلف بها إليك، وإني قاص عليك قصتي فأصخ لها ولك بعد ذلك حكمك، فسري عني قليلا ما كان ألم بنفسي من القلق, فأقبلت عليه بوجهي فأنشأ يقول:
لا أزال يا بني حتى الساعة أشعر بمرارة الحساب في فمي, فقد حوسبت حسابا غير يسير على الكبير والصغير والدقيق والجليل والقومة والقعدة والخطرة واللمحة وكل ما وجدته حاضرا بين يدي في صحائفي, فكادت حسناتي تكافئ في الميزان سيئاتي لولا تلك الكلمات التي كنت أرددها في حياتي الأولى في تزهيد الناس في النسل والزواج1, فقد دخلت بها في زمرة المفسدين الذين تنكروا لإرادة الله وأغفلوا حكمته في خلق النوع البشري, وطال حسابي عليها وحجاجي فيها, وكان لا بد من العقاب ففزعت إلى الروح الشريفة المحمدية مستشفعا بها لا أريد رد القضاء, ولكن أريد اللطف فيه، فتعلق محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوائم العرش الإلهي وقال:
"اللهم إنك تعلم أن عبدك هذا عاش في تلك الدار كارها لها متبرما بها, متسخطا عليها حابسا نفسه في كسر بيته فرارا من أهلها, يترقب فراقها في جميع آنائه وفيناته حتى لو رأى الشمس طالعة لتمنى ألا يرى مغربها ولو رآها غاربة لتمنى ألا يرى مشرقها، وقد قضى قضاؤك الذي لا مرد له ولا محيص عنه أن تعاقبه على ما اجترح من السيئات في دار العمل, فأسألك بقلمك النوراني الذي تمحو به في لوحك ما تشاء وتثبت أن تقي جسمه الذي طهره في الحياة الدنيا بالزهد في شهواتها ولذائذها والصبر على آلامها وأهوالها من عذاب النار1, وأن تجعل عذاب قلبه فداء عذاب جسمه, فعاقبه بإرجاعه إلى تلك الدار التي كانت جحيمه ومستقر عذابه، وحسبه من العقاب أن يلقى فيها آخرا ما لقي فيها أولا, إنك بعبادك لطيف خبير".
فقبل الله شفاعة نبيه, وقضى أن أعود إلى الدار الأولى لأقضي فيها من الأيام بعدد ما قضيت فيها من السنين, وقد علم سبحانه وتعالى أني كنت في العهد الأول أحمده على العمى كما يحمده غيري على البصر, فرد إلي بصري لتنفذ مشيئته في عقابي وتعذيبي, فله الحمد على سرائه وضرائه.
هذه قصتي قصصتها عليك, وهذا أول يوم من الأيام التي سأقضيها في داركم هذه, فاكتم علي أمري حتى ينقضي أجلي, وكن لي خير معين على هموم الحياة وبأسائها, فقد اغتبطت بك مذ رأيتك وعلمت أن الله ما قيضك لي إلا وهو يريد أن يخفف عني العذاب مرة أخرى.
فما أتم قصته حتى ابتدرتُ يديه لثما وتقبيلا, وعلمت أني قد أحرزت في بيتي كنزا لا أعدل به كنوز الأرض ظاهرها وباطنها, وشعرت بما أضاء بين جوانحي من سرور ما كان يكدره علي إلا خوف انقضائه.
ثم ما زلنا نتحدث حتى كادت تحترق فحمة الليل, فوضعت يدي في يده وعاهدته على كتمان سره, ثم ودعته وتركته في خلوته على أن نلتقي غدا.
"اليوم الثاني":
ما كنت أجهل قبل اليوم رأي الشيخ في الطعام وما يحب منه وما يكره, ولكنني ظننت أنه بعث بطبيعة غير طبيعته ورأي غير رأيه فقدمت إليه في طعام العشاء دجاجات ربلات1 كنت أعددتهن للضيفان من قبل، فلما أخذ بصره المائدة صار ينظر إليها مرة وإلي أخرى ثم قال: ما اسم هذا الطعام الذي تقدمه إلي؟ قلت: إنهن دجاجات لم يكن للخادم الصغرى عندي شأن غير رعايتهن والقيام عليهن والحدب بهن، فكانت تؤثرهن بأفضل ما نؤثرها به من طعام وشراب, وتنزلهن من نفسها منزلة الواحد من أمه حتى امتلأن واكتنزن1 واستدرن للذبح، وكنت أبقي عليهن كلما طرقني طارق إبقاء على الفتاة أن ينفجر صدرها حزنا على أترابها الصغيرات، أما اليوم فلم أر من ذلك بدا فذبحتهن إكراما لك, فسال من دموع الفتاة عليهن أكثر مما سال من دمائهن.
فوجم الشيخ, ثم أطرق إطراقا طويلا سمعته يهينم2 فيه بهذه الكلمات:
وا رحمتاه، ألا تزال هذه المُدى موكلة بهذه الأعناق، ألا يزال الحيوان الناطق ينكر على الحيوان الصامت حتى حسه ووجدانه ويأبى إلا أن ينظمه في سلك الجمادات الصم؛ لأنه صامت لا ينطق وأخرس لا يبين3, ربما كان زقاء الديك وقوقأة الدجاجة وصرصرة البازي وهديل الحمام وزقزقة العصفور وثغاء الشاة ومواء الهرة وخوار الثور وحنين النيب1 بكاء بغير دموع وشكوى بغير لسان، وربما كان يكتم ذلك الذبيح في نفسه من الوجد والبرحاء ما لو استطاع أن يبين عنه لأبكى العيون دماء, وفجر الصخر عيونا.
ثم رفع رأسه إلي وقال: أما سمعت الدجاجات يقلن لك شيئا عندما أردت ذبحهن؟ قلت: لا يا مولاي ومتى قلن للناس شيئا فيقلن لي، فنظر إلي نظرة شزراء لا أنسى سهمها الواقع في قلبي ما حييت ثم قال: أما لو أن الله منح ذابح الدجاجة من نور البصيرة ما منحه من نور البصر لسمعها تقول له:
مهلا رويدا أيها القاتل السفاك, لا تدن مني ولا تمدد يدك إلي, فلا شأن لك معي ولا ترة2 لك عندي.
أنا صاحبة الحق المطلق في حياتي وأنا لا أريد أن أموت ولا رغبة لي في فراق الحياة؛ لأن ورائي أفراخا صغارا هن إلى حياتي أحوج منك إلى مماتي, وليس من الرأي أن أكل أمرهن إليك من بعدي؛ لأنك شره طماع, لا يشبع بطنك ولا تهدأ مديتك.
أنت لا تملك أن تعطيني الحياة فلا تملك أن تسلبني إياها كل ما تستطيع أن تمن به علي أنك كنت تطعمني وتسقيني فهل تعلم أنك ما كنت تطعمني إلا فتات مائدتك ولا تسقيني إلا غُسالة يديك, وأنك ما كنت تصنع ذلك رحمة بي ولا إحسانا إلي, بل لتهيئ لنفسك ما يسد شهوتها ويطفئ لوعتها، وهل تعلم أنك أنت الذي سجنتني في أقفاصك وحلت بيني وبين رزق الله أطعمه أنى ذهبت وأين حللت من حيث لا يساومني فيه مساوم, ولا يحاسبني عليه محاسب!
أمن أجل تلك الخشارة1 القذرة والجرعة الكدرة تسلبني حياتي, وتفجع بي أفراخي ولا ذنب لي ولا لهن عندك إلا أنا كنا زينة بيتك, ولعبة أطفالك, وحماة آلك من بنات الأرض2 وهوامها, ورسل الفجر المنير إليك.
لا تظلم السبع بعد اليوم ولا تنقم منه وحشيته وافتراسه؛ فكلاكما وحش وكلاكما مفترس لا فرق بينك وبينه إلا أنه لا يحسن الذبح والطبخ كما تحسن, فهو يبقر البطون بأظافره وأنت تفري الأوداج بمُداك، لا بل إن جريمتك أكبر من جريمته وعذرك أضعف من عذره؛ لأنه يفترس ليشبع بطنه وأنت تفترس لترفّه نفسك, ولأنه يعجز عن الاحتيال لقوته وأنت على ذلك من القادرين1.
استضعفتني فبرزت إليَّ, فهلا برزت لشبل الأسد أو ديسم الدب أو فرعل الضبع أو حرش الحية أو هيثم النسر أو ناهض العقاب2؟
ما أخبثك أيها الإنسان عاجزا وما أظلمك قادرا, وما أشقاك بنفسك وأشقى العالمين بشقائك.
ذلك ما كان يسمعه الذابح من ذبيحته لو أن الله وهبه أذنا كالآذان وبصيرة كالبصائر, ولكن الناس لا يعلمون.
هيه يا صاحب الدجاجات, حدثني عنك ألم يكن لك في جميع ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها منادح لإكرامى والقيام بحقي, وأنت تعلم أنني رجل سلخت في دنياكم هذه من حياتي الأولى نيفا وأربعين سنة لم أذق فيها لحم الحيوان ولا ثماره ولا نتاجه, فحميت نفسي حتى عسل النحل وبيض الدجاج وألبان ذوات الأثداء وأقنعتها بالبلسن طعاما والبلس حلوى1؛ لأني كنت أعلم أن النبات طعامي الذي لا يلائمني غيره ولا يشبهني سواه, وأن لحم الحيوان إنما خلق للشفاه الغليظة والأنياب العريضة والأظفار الحادة والجلود المزأبرة2 والأعضاء المتوثبة والهامات الضخمة، وكنت أرى أن أكلة اللحوم إنما يخادعون أنفسهم فيها ويجترُّونها إلى طبائعهم اجترارا؛ لأنهم لا يأكلونها إلا إذا عالجوها بالطبخ والصف3 والتقديد والشي والقلي ومزجوها بالخضر والتوابل والأبازير والأقزاح4 مزجا يكاد يخرج بها عن جوهرها إلى جوهر النبات حتى إذا نزل بهم عارض مرض نزعوا عنها وبرئوا إلى الله منها, وفزعوا إلى النبات في طعامهم وشرابهم وعقاقيرهم كأنما يطلبون شفاءهم في الرجوع إلى غذائهم الطبيعي الذي خلقوا له. 
وأعجب ما كنت أعجب له من أمرهم أنهم كانوا ينكرون علي رأيي في ترك ذلك الطعام ويمعنون في مساءلتي عنه وحجاجي فيه وحملي عليه, ويلحون في ذلك إلحاحا شديدا حتى ظننت أنهم قاتليّ من دونه1 كأنما يزعمون في ضوضائهم هذه أنهم إنما يأكلون لحم الحيوان باسم الشريعة الدينية لا باسم القرم والجعم2, أو أن الله تعالى أنزل عليهم قرآنا ألا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ولا يقبل منهم صرفا ولا عدلا إلا إذا قدموا عليه ببطون بجر3 مكتظة بلحوم الحيوان تتقدم بين أيديهم في منصرفهم من الحساب لتفتح لهم أبواب الجنان، وكأنهم فرغوا من أداء ما افترض الله عليهم أن يؤدوه وترك ما أمرهم أن يتركوه, فلم يبق بين أيديهم من أبواب العبادة إلا باب التورع عن أكل اللحم مخافة أن ينقلب المباح بإعراضهم عنه حراما كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة التراويح بعد أدائها مخافة أن تنقلب سنتها باستمراره عليها فريضة1.
وأحسب أن لو كنت فيهم من أكلة السحت أو الميتة والدم ولحم الخنزير أو أموال الناس بالباطل لأوسعوا لي في صدورهم من العذر ما لم يوسعوا في ترك مباح ما تركته نقمة على الشريعة أو تبرما بها أو تمردا عليها, ولكنني كنت امرأ جزوعا يزعجني منظر الشرائح الحيوانية على مائدتي؛ لأنه يذكرني بمنظر الذبيحة وارتياعها وولهها بين حبل الذابح وسكينه وكنت فقيرا بائسا لا أملك في كل عام من الرزق إلا نيفا وعشرين دينارا, لا يتسع مثلها لمثل ما يتسع له عيش الناعمين المترفين2 وما كنت أجد السبيل إلى غيرها إلا من طريق الكدية والتكفف, أي: بقبول صلات الأمراء وصدقات المحسنين، وقد علم الله من شأني أنني رجل لو علمت أني إن أذلت ما صان الله من ماء وجهي على عتبة أمير أو قدم وزير أمطرت السماء علي ذهبا, واستحالت الحصباء تحت قدمي درا ما فعلت ضنا بنفسي على هذا الموقف المستوبل, وإيثارا للرضاء بقضاء الله وقدره في قسمة أرزاقه بين عباده1.
فلم أر خيرا من ترك طعام لو اشتهيته لما قدرت عليه, ولو قدرت عليه لما اشتهيته من حيث لا يكون للتحريم والتحليل, ولا للإيمان والزندقة في ذلك مدخل.
وما زال المتورعون من السلف الصالح يتركون ما هو لهم حلال مطلق من لذائذ هذه الحياة وشهواتها ويجزعون من ملامسته والدنو منه جزعهم من اجتراح السيئات وانتهاك الحرمات، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجيع نفسه من غير عوز, وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: إن رسول الله لم يمتلئ قط شبعا, وربما بكيت رحمة له مما أرى به من الجوع, فأمسح بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء, لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك، فيقول: "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا, فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم" وكان يقول: "شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة"1 وعلا عمر -رضي الله عنه- ولده عبد الله بن عمر بالدرة2 إذ دخل عليه فرآه يجمع في طعامه بين الثريد والشواء, وكان بعض الصالحين يعد الجمع بين الخبز والملح شهوة فيتجنبها، وكان بعضهم يعجن دقيقه ويجففه في الشمس ثم يأكله قائلا كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء، ومنهم من لم يأتدم في حياته لا بالجوذاب3 والكباب ولا بالخل والزيت.
فهل كان واحد من هؤلاء بطرا بنعمة الله أو محرما ما حلل الله؟ لا فما كل من أبغض حلالا حرمه ولا كل من أحب حراما حلله فقد اعتقد صاحب أبي حنيفة بحل النبيذ, فلما أريد عليه قال: لو قطعت إربا إربا ما حرمته، ولو قطعت إربا إربا ما شربته، وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بحل الطلاق ثم قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" بل لو تبينت لعلمت أن قاعدة التحريم والتحليل في الشرائع الدينية مصادرة النفوس في ميولها وشهواتها والنفوس لا تنفر إلا مما حل لها, ولا تشتهي إلا ما حرم عليها.
فويل لي من هؤلاء الناس شركتهم في دنياهم فقالوا: شره طماع, وصدفت لهم عنها فقالوا: زنديق ملحد, فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون1.
وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى بلغ منه الجهد أو كاد فتفصد جبينه عرقا واستسر حديثه حتى ما يكاد يبين, فرثيت له مما به وأمرت برفع المائدة من بين يديه, وقدمت له مقترحه من الطعام فلبثنا نأكل صامتين حتى فرغنا فأردت أن أرفّه عليه ما ألم به من الهم فقلت له: يا مولاي إن للحيوان اليوم شأنا غير ذلك الشأن الذي تعرفه له من قبل, فقد ذهب كثير من الناس مذهب الرفق به والإحسان إليه واجتمع في كل مدينة من مدن العالم قوم من الراحمين المحسنين يأخذون أنفسهم بمناظرة المدارج والسبل والأسواق العامة, فإذا وجدوا من يحمل على دابته فوق ما تحتمل أو يسوطها سوطا عنيفا2 رفعوا إلى الحاكم أمره أو رأوا حيوانا هزيلا أو مهيضا1 حملوه إلى مكان خاص بمعالجة أمراض الحيوان, فعالجوه إن وجدوا إلى الرجاء فيه سبيلا وإلا قتلوه رحمة به, وإشفاقا عليه.
قال: لقد أحسنوا في الأولى وأساءوا في الأخرى ومن لهم بعلم ما استتر وراء حجب الغيب من كوامن الأقدار في تحديد الآجال، وها نحن نرى في كل يوم مريضا يئل بعد إشرافه وبكاء الباكيات حوله وصحيحا يخترم في اجتماع قوته واستكمال فتوته وغليان ماء الشباب في وجهه كما تخترم الثمرة الغضة من غصنها الناضر, فهلا وكلوه إلى منيته تأتيه هادئة مطمئنة حيث يسوقها القدر إليه2.
ما أحسب هؤلاء الراحمين الذين تحدثني عنهم إلا مرائين مصانعين, ولا هذه الرحمة التي ينتحلونها لأنفسهم إلا حبالة من الحبائل نصبوها لاصطياد العقول واختتال النفوس, ولا أنهم أرادوا بما فعلوا إلا أن يقول الناس عنهم: إنهم رحموا الحيوان فأحرى أن يرحموا الإنسان، فمثلهم كمثل المرائين في الدين الذين يتورعون عن التمرة حلالا تذرعا إلى البدرة حراما.
يا بني آدم دعوا النوق في مراحها والشاء في زروبها والوحش في كناسه والضب في جحره والذئب في وجاره والقطا في أفاحيصه, ولا تزعجوا العصافير في أعشاشها ولا الحمام عن محاضنها ولا اليعاسيب عن خلاياها ولا الأسماك عن مسارحها1, وجنبوها فخاخكم وشباككم وقتركم وزباكم2 ومداكم وشفاركم, فإن لها نفوسا كنفوسكم ووجدانا كوجدانكم ورجاء في الحياة كرجائكم, واعلموا أن الله تعالى ما أغرى بعضكم ببعض ولا سلط قويكم على ضعيفكم ولا أجرى هذه الينابيع من الدماء بين أحيائكم إلا بعد أن ضريتم3 بهذه اللحوم ضراء السباع بفرائسها, وقطعتم إلى المتعة بها ما شئتم من الحلاقيم والغلاصم والأوداج والأباهر4 فارحموها ترحموا أنفسكم واعصموا دماءها يعصم الله دماءكم، إنكم إلى الرحمة محتاجون، وإلى الله راغبون1.
ثم سكت بعد ذلك سكوت المجهد المتعب, وكان الظلام قد أظلنا بجناحيه فشعرت أن سنة من النوم قد رنقت1 في عينيه, فانسللت من بين يديه وتركته في مضجعه على أن ألقاه غدا.
"اليوم الثالث":
أصبحت في اليوم الثالث فإذا الشيخ قد فارق خلوته إلى حديقة المنزل فافترش ترابها، وتوسد أعشابها، وأنشأ يردد النظر بين أزهارها وأنوارها، ويبسم للعصافير تتنقل بين أنجمها2 وأشجارها، ويصغي إلى سرار الحديث بين حصبائها ومائها؛ فعرفت المدخل إلى قلبه والوسيلة إلى سروره وغبطته, فاقترحت عليه البروز إلى ضاحية البلد ليرفه عن نفسه ما ألم بها من الحزن والألم, فخرجنا يتوكأ على يدي مرة وعلى عصاه أخرى حتى وصلنا إلى وادٍ أفيح يهتزّ بصنوف الأشجار وأفانين الأزهار، ويتراءى في ألوان من النبات، مشتبهات وغير مشتبهات، من هائج وعميم، وبارض وجميم1, وكروم وأعناب، وسنابل وأعشاب، وتفيض أرجاؤه بالجداول والغدران، والقنى والخلجان، مطردات ومنعطفات، ومجتمعات ومفترقات، يفضي أولاها إلى أخراها، ويتصل أقصاها بأدناها، ويعطف كبيرها على صغيرها، وقويها على ضعيفها، فكأنها صلال رقشاء قد فرت من حر الظهيرة إلى هذا الروض الأريض تبترد بين روابيه وأكماته، ومصاعده ومنحدراته، فهي تنقبض وتنبسط، وتنساب وتتمعج2، وتقبل وتدبر، وتقوم وتقعد، وتتواثب وتتراجع، وتتواصل ثم تتقاطع، وكأن حفيف أوراقه وخرير مائه وتغريد أطياره وضجيج نواعيره وعجيج سائمته أنغام مختلفات يتألف من مجموعها لحن بديع يسمعه السامع, فيخيل إليه أنه هابط من أبواب السماء، أو أن سكان الألمب3 فوق عروشهم يغنون، وسكان الأرض بين أيديهم يستمعون.
هنالك وقف الشيخ أمام هذا المشهد المؤثر وقفة الحائر المشدوه، وقد ملكت عليه مشاعره وحيل بينه وبين نفسه, فجمد في مكانه كأنه نصب من الأنصاب, ووقفت وراءه أعجب لجموده وسكونه حتى فنيت كما فني في مشهده الذي بين يديه, فلم أرجع إلى نفسي حتى سمعته يقول:
للمليك المذكرات عبيد ... وكذاك المؤنثات إماء
فالهلال المنيف والبدر والفر ... قد والصبح والثرى والماء
والثريا والشمس والنار والنثـ ... ـرة والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عا ... بك في قول ذلك الحكماء
ثم التفت إلي وقال: كل الناس يطلبون الحقيقة وكلهم عاجزون عنها؛ لأنهم يطلبونها من صحائف التاريخ والمؤرخون يصانعون ويدهنون، أو من أفواه الفقهاء والفقهاء تجار يرتزقون، لا هداة يرشدون، أو من خطرات عقولهم وقد أفسدها عليهم القائلون والكاتبون1, والحقيقة موجودة ولكنهم لا يعرفونها؛ لأنهم لا يعرفون الطريق إليها، قلت: وأين تجدها؟ قال: في هذه الأودية الفيحاء، تحت تلك القبة الزرقاء، بين ذلك الظل والماء.
هنا يرى الإنسان ربه في الغريسة, يلقي بها غارسها في التربة فإذا هي نبتة زاهرة مستوية على سوقها تعجب الزراع، ويراه في الحبة الدقيقة في الصرة المستديرة في النواة الصغيرة التي لا تلبث أن تأخذ مكانها من مغرسها حتى تصير نخلة سحوقا, تملأ الأرض خيرا بجذوعها وسعفها وجريدها وقنواتها وعثاكيلها وطلعها وبلحها وبسرها، ويراه في الكواكب الماثلة في السماء، والأسماك السابحة في الماء، والأجواء المملوءة بالهواء، والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، فيمتلئ قلبه يقينا صافيا رائقا لا تعبث به المناظرات، ولا تشوه جماله المجادلات، ولا يحتاج بعده إلى متكلم يعلمه النظر، ولا فقيه يلقنه الجدل، فلا دليل على الله غيره، ولا هادي إليه سواه1.
هنا يرى الإنسان السائمة تأكل العشب, والعشب يأكل التراب, والتراب يأكل السائمة فيستحيل الجماد نباتا والنبات حيوانا والحيوان جمادا, فيعلم أن المواليد الثلاثة مادة واحدة تتلون ذراتها وتتشكل جواهرها, ويعلم أن هذا الإنسان الفاخر بنفسه والمدل بعظمته واقتداره ربما كان بالأمس صفيحة1 ملقاة على جانب قبر، وربما يكون في الغد جلدة بالية في ذؤابة2 نعل3
هنا يرى الإنسان الأرض الصلفاء يمر بها الماء وتلقى فيها البذور, فلا تلبث الشمس أن تجفف ماءها والريح أن تعصف ببذورها, فيعلم أن الحقائق الدينية لا يمكن أن تستقر في قلوب الأشرار إلى أن تبلغ شغافها, وأن الناس ما اختلفوا إلا لأنهم جاحدون، ولا اقتتلوا إلا لأنهم ملحدون.
هنا يرى الإنسان الشمس طالعة من مشرقها مصفرة اللون, متقاربة الخطوات مخافة أن تطير إليها رشاشة سوداء من مآثم هذا العالم ومخازيه, ثم لا تلبث أن تأخذ مكانها من كبد السماء حتى تنحدر إلى مغربها هاربة, فتنغمس في ماء البحر قبل غروبها لتغسل عن جرمها الأبيض المشرق ما ألم به من تلك الأدران والأوحال، ويرى الليل مقبلا يقطب وجهه ويزوي ما بين حاجبيه ويربد شيئا فشيئا حتى يسود غضبا على هذا المجتمع البشري فيما يقترفه تحت ستاره من المفاسد والشرور، ولا يزال مادا يديه بالدعاء إلى الله تعالى أن يعجل أوبته إلى مستقره حتى يستجيب له ويداول بينه وبين النهار، ويرى الكواكب قد كمنت وراء ستر الظلام ثم أطلت بعيونها على هذا العالم الأرضي مرغمة لتنفس عن رفيقها الليل بعض ما خالط قلبه من الهم والكمد, فلا تلبث أجفانها أن تطرف انغلاقا وانفتاحا مخافة أن يصيبها سهم نافذ من سهام الأشرار التي تتطاير يمنة ويسرة وصعودا وهبوطا, فلا يقوم لها شيء إلا أتت عليه.
هنا يرى الإنسان الحقيقة في هذا العالم عارية الجسم, ويسمع صوتها واضح النبرات من حيث لا يحجب بصره تكلف المتكلفين، ولا خداع الخادعين، ولا يصد سمعه قرع النواقيس ولا صياح المؤذنين.
فقلت: حسبك يا مولاي فقد نال منك أجيج هذه الرمضاء, وإني أرى في رأس هذا الوادي رجلا أحسبه فلاح هذه الأرض, فامض بنا إليه علّه ييسر لنا ظلة نفيء إليها, وجرعة باردة نفثأ بها هذه الصارّة1، فمشينا إليه حتى بلغناه فرأيناه مكبا على تربته يفلحها ويقلب عاليها سافلها وقد شرست يده وشثنت قدماه وزأبر صدره2، وأفرغ قرص الشمس في رأسه جعبة سهامه فتصبب عرقا حتى سالت منه على قدميه قطرات كقطرات البخار تسيل على جوانب القدر المضطرم, فحييناه بتحية حيا بأحسن منها, وأفضينا إليه بطلبتنا فأشار بيده إلى كوخه وكان منه على كثب فإذا عريش من عيدان القصب مسجج1 قد ارتفع فوقه سقف من جذوع الأشجار, واعتمد على أُسيطينة2 من اللبن الأسود وامتدت أمامه صفة مستطيلة واستدار به نؤي يمنع عنه مسيل الماء, فدخلناه فلم نر فيه إلا رثة3 من المتاع لا تكاد تزيد على جوالق للخبز اليبيس وخلقان من القمص والأبراد وقدر وأثفية وجرة مملوءة ماء وحشية4 بالية مفككة تضطرب في جوفها حشوة من الليف اضطراب الجنين في جوف الحامل، فشربنا حتى ارتوينا وأخذنا من تلك الحشية مضجعنا وما زلنا على حالنا تلك سكوتا لا نتكلم حتى جاء الرجل وقد مال ميزان النهار يقزل5 في مشيته ويحمل فأسه على عاتقه ويجر وراءه ولدين صغيرين له بين الثامنة والعاشرة, فجلس وجلس ولداه بين يديه وأنشأ يلقي إلينا معاذيره ويتوجع لعجزه عن إكرامنا وإسعافنا بما نحب, فعذرناه ثم جرى بينه وبين الشيخ الحديث الآتي، وكنت أترجم بينهما لأنهما لا يكادان يتفاهمان:
الشيخ: من يملك هذه الأرض؟
الفلاح: هي لسيدي ومولاي أطال الله بقاءه وأتم عليه نعمته صاحب هذا القصر الذي تراه، وأشار إلى قصر فخم يرفرف بأجنحته في هذه البقعة الخضراء، رفرفة الحمامة البيضاء، في القبة الزرقاء.
الشيخ: أراك تدعو له وتتمنى له الخير والسعادة, فلعلك سعيد بجواره مغتبط بمكانك منه, ولعله يمدك ببره وإحسانه ويغدق عليك من نعمته ما يطلق لسانك بحمده والثناء عليه.
الفلاح: حسبي من سيدي أن أرى وجهه مرة في كل يوم أو يومين, ممتطيا فرسه الدهماء في ركب من أصحابه وحاشيته, مارا بهذه الأجمات الملتفة يتنزه ويتروح, ويطارد الثعالب والذئاب مطاردة الشجاع المستقتل, ثم يعود إلى قصره مسرورا مغتبطا بمصبحه وممساه.
الشيخ: إنما أسألك عن أياديه عندك, وصنائعه لديك لا عن منازهه وطرائده وملذاته وشهواته.
الفلاح: وهل يوجد في باب النعم جليلها ودقيقها نعمة أجل قدرا وأسنى قيمة من أن أكون عبدا مملوكا لسيد كهذا السيد رفيع الجاه جليل القدر واسع النعمة, تطأطئ بين يديه رءوس العظماء ويختلف إلى حضرته كبار الأمراء؟
الشيخ: أيها الرجل ما عن هذا أسألك, إنما أسألك: هل يسلم عليك سيدك هذا إذا مر ببابك أو يخلو بك أحيانا ليتعرف همك, وما تهتف به نفسك من رغباتك وحاجاتك؟
الفلاح: الحق أقول, يا سيدي إني ما سمعت في حياتي بأعجب من سؤالك هذا، ومتى كان السيد يخاطب عبده إلا بالأمر والنهي, أو يرفع إليه طرفه إلا بالنظر الشزر, أو يلامس بيده جسمه إلا للتأديب والتهذيب، ولقد تمر بي وبعيالي الليالي ذوات العدد ولا نكاد نجد من الخبز المخشوشب ما يملأ بطوننا فلا أجد في نفسي من الحزن والألم ما أجد من نسيان سيدي إياي بضعة أيام أو إغفاله أمري ونهيي وزجري وتأديبي، وقد أعد لي حفظه الله وأمتعني بدوام رعايته وعنايته عصيا غلاظا يتعهدني بها من حين إلى حين كلما نسيت أمرا من أوامره, أو قصرت في رعاية غرض من أغراضه فأغتبط بذلك الاغتباط كله؛ لأني أعلم أني منه على ذكر1 وأني قد نزلت من نفسه منزلة من لا يهون عليه إغفاله واطراحه وإلقاء حبله على غاربه.
الشيخ: وأين أم هذين الولدين؟ 
الفلاح: ماتت رحمها الله في سبيل خدمة سيدها؛ فقد كنا يوما نمتح1 على حافة بئر فزلقت أقدامنا وانبتّ بنا الحبل فسقطنا، أما هي فاستأثر الله بها وأما أنا فانكسرت رجلي وقدر الله لي الحياة, فما أسفت على شيء أسفي على أن لم أكن قد لحقتُ بها فأكون قد هلكت في سبيل خدمة سيدي كما هلكت؛ ليترحم علي كما ترحم عليها, ويأمر بدفني في مقبرة أجداده كما أمر بدفنها.
الشيخ: ربما كنتَ قانعا من إحسان سيدك إليك, وعطفه عليك بما تعود به على نفسك وعيالك من غلة هذه الأرض وثمراتها.
الفلاح: لا والله يا مولاي, ما أعلمني نازعت سيدي نعمته وسعادته في قفيز بُرّ أو حفنة تمر، إلا أن تسقط بين يدي تمرة أعلم أنه لا يأبه لها فتكون قسمة بيني وبين ولدي, أو أحتطب من أطراف هذا الوادي بضعة أعواد من الحطب أشعلها تحت قدري, وأستغفر الله مما سهوت عنه أو أخطأت فيه.
وهنا رأيت أبا العلاء كأنما يحاول أن يكاتمني دمعة تترجح في مقلتيه, فأشرت إليه بالقيام فقمنا ومشينا صامتين لا ينطق ولا أنطق حتى بلغنا المنزل, وقد نزل ستر الظلام فقلت: أرجو يا مولاي
أن أكون قد بلغت ما أردت لك في مخرجك هذا من السرور والغبطة، قال: ما نغّص علي يومي إلا منظر ذلك الرجل الأبله المسكين في صغر نفسه وسقوط همته وذلة جانبه، وما أحسب إلا أن الظلم قد ألح على نفسه حتى قتلها وسلبها حسها ووجدانها, فأصبح لا يعرف لنفسه حياة ذاتية مستقلة عن حياة ذلك الإنسان الذي يسميه سيده1, فهو لا يفرح إلا لفرحه ولا يغتبط إلا باغتباطه ويرضيه منه كل شيء حتى سوء مجازاته إياه على إخلاصه إليه, وتعبده له بضربه وتعذيبه وتقتير الرزق عليه, وكذلك يفعل الظلم في نفوس المستضعفين.
ثم تركني وانحدر إلى مخدعه, وهو يهتف بهذه الكلمات:
يحسن مرأى لبني آدم ... وكلهم في الذوق لا يعذب
أفضل من أفضلهم صخرة ... لا تظلم الناس ولا تكذب


























 مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید