المنشورات

تهكم:

علمت أن ساسانيا1 طرق بابك بالأمس، وما زال يكيد لك ويماحلك، ويتغلغل في مواضع الضعف من قلبك، حتى خدعك عن نفسك، واقتطف زهرة من روضة مالك؛ وراح يفتر عن ثغر باسم، ورحت تقرع سن نادم، فما هذا الخلق الغريب الذي تخلقته، وما هذا المذهب الجديد الذي اعتنقته؛ ومتى أقامك آدم وصيا على أولاده من بعده، تكسو عاريهم، وتشبع جائعهم، على أن الفقراء في الدنيا كثير قد ضاقت بهم خزائن الأرض والسماء فكيف تسعهم خزائنك، وهل بين الدرهم الذي أعطيت، والدراهم التي أبقيت، إلا حرف واحد2، فليت شعري من أين دهيت، ومن أي باب نفذ هذا الشيطان إلى قلبك، وإن أخوف ما أخاف عليك أن تكون أُتيت من باب تلك الخدعة الشيطانية التي يسمونها الرحمة، فإن كانت هي فالخطب عظيم، والبلاء جسيم؛ فإنك حيثما ذهبت، وأنى حللت، لا تقع عينك إلا على يد شلاء، ورجل بتراء، وعين عمياء، وصورة شوهاء، وثوب مخرق، وشلو ممزق، وطريح على التراب سقيم، وجسم أعرى من أديم، فإن لم تفارق الرحمة قلبك، فارق المال جيبك، فطفت مع الطائفين، وتسولت مع المتسولين، ثم لا تجد لك راحما ولا معينا، فارحم نفسك قبل أن ترحم سواك، ولا تنس أن تردد في صباحك ومسائك، وفي مستأنف خطواتك، وفي أعقاب صلواتك، كلمة ابن الزيات: "الرحمة خور في الطبيعة".
وعلمت أنك دعيت إلى وليمة فلان فتحلب لها فوك، ورقصت لها أشداقك، فطرت إليها، ثم وقعت على خبزها وشوائها، وفاكهتها وحلوائها، مثلج الصدر، ثابت القدم، ساكن القلب، طيب النفس، كأنك لا تعلم أنها لذة الساعة ومرارة العمر، وشبع اليوم وجوع الأبد، وأنك إنما طعمت ما في الحبالة من الحب، تأكله اليوم ليأكلك غدا، فمن لك بالنجاة من مضيفك إذا جاءك يوما يتقاضاك دينه وقد حفت به كوكبة من خلانه وصحبه، فطار لمرآه لبك، وتمشى له قلبك في صدرك، وخيرك بين لحم شاتك ولحمك، فالفقر إن منحت، والعار إن منعت، وأعجب من ذلك أنك ما برحت الوليمة حتى أخذ المغني مجلسه فسمعت وطربت، ومن طرب شرب، ومن شرب وهب، ومن وهب خرب، ولقد كان لك في انزوائك واعتزالك، واكتفائك بقرصك وزيتك، وخلوتك بصندوقك في كسر بيتك، من حيث لا تزور ولا تزار, منادح عن هذه اللقمة التي أسهرت ليلك، وأقضّت مضجعك، وأقعدتك على مثل روق الظبى خيفة وحذارا، فإياك والعود إلى مثلها يطل غمك، ويسود عيشك، والسلام.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید