المنشورات

الموتى:

"مترجمة"
دقت أجراس المساء تنعى اليوم الراحل، وتندب جماله الزائل، وأخذت قطعان الماشية تعود من مراعيها إلى حظائرها، ومشى وراءها رعاتها يهشون عليها بعصيهم لا يريدون بها شرا ولا أذى لأنهم يحبونها وتحبهم, بل يخافون عليها الضلال, فهم يهدونها الطريق، ومد الظلام رواقه الأسود على جسم الطبيعة المنبسطة كأنما ظن أنها تنام كما ينام البشر, فهو يقيها برد الليل وغائلته، وساد سكون رهيب في تلك الأنحاء فلا يسمع إلا صوت البلبل يشكر للقمر ما أهدي إلى جناحيه من أشعة متلألئة, ونعيب اليوم يمد صوته بالشكوى إلى الله تعالى في سمائه، وما شكاته إلا أن بعض السائحين يطئون أرضه وينتهكون حرمة خرباته المقدسة، وهنالك تحت ظلال الأشجار الضخمة اليابسة رقد أسلاف سكان تلك المزرعة تحت أعماق الأرض رقدة طويلة, بل أكثر من طويلة لأنها لا نهاية لها، فلا نسمات الصباح الباردة، ولا تغريد الطيور الصادحة، ولا صياح الديكة، ولا رنين الأجراس، ولا هتاف الرعاة، يوقظهم من رقدتهم هذه.
أسفي عليهم, لقد أمسوا ولا نيران توقد في أكواخهم، ولا زوجات صالحات يذهبن يجئن في تهيئة طعام عشائهم، ولا صبية صغارا يستقبلونهم عند عودتهم ليقبلوهم ويستقبلوا قبلاتهم، أولئك الرقود الهامدون كانوا بالأمس أشداء أقوياء، تمد السنابل أعناقها خاضعة لمناجلهم، ويئن ظهر الأرض وبطنها تحت وطأة محاريثهم، وترتعد جذوع الأشجار الضخمة فرقا من ضربات فئوسهم.
أولئك الوجوم الصامتون كانوا بالأمس فرحين مستبشرين يرقصون ويغنون ويجدون السعادة في كل شيء يحيط بهم، فيطربون لوقع حوافر ماشيتهم على الحصباء كأنما يسمعون قيثارة مطربة، ويجدون في ضجعتهم فوق الأعشاب اليابسة الراحة التي يجدها أصحاب الأسرة فوق مهادهم الوثير، ويشعرون في تناولهم اللقمة الجافة السوداء بعد الجوع باللذة التي يشعر بها الأغنياء عند تناولهم ألوان الطعام الشهي حول موائدهم، ويغترفون بأكفهم الماء من الأنهر والخلجان فيتلذذون بارتشافه كأنما يتناولون صافية الصهباء في كئوس البلور والذهب.
أولئك الخاملون المغمورون الذين لم تنصب لهم التماثيل، ولم ترفع فوق قبورهم القباب كانوا في حياتهم شرفاء عظماء؛ لأنهم كانوا متحابين متآخين، لا يحسد فقيرهم غنيهم ولا يبغي قويهم على ضعيفهم، ولا يحقدون ولا يغدرون، ولا يخافون شيئا حتى الموت ولا يعبدون إلها إلا الله.
كذلك كانوا بالأمس، واليوم طواهم الرمس، فرحمة الله عليهم يوم كانوا على ظهر الأرض وبعدما أصبحوا في بطنها.
فليجْثُ فوق رمال هذه القبور المبعثرة وبين صفائحها المتهدمة المتساقطة أرباب المطامع في الحياة وطلاب المجد والعظمة, خاشعين مستكينين خافضي رءوسهم إجلالا وإعظاما، وليمسكوا قليلا عن الإدلال بعزهم وجاههم والمكاثرة بفضتهم وذهبهم، وليخفوا في أعماق نفوسهم ابتسامات الهزء والسخرية المترقرقة على شفاههم، وليعلموا أن طريق المجد والعظمة التي يسيرون فيها وإن كانت مخضرة جميلة مفروشة بالأعشاب محفوفة بالأزهار الأريجة, فإنها تؤدي في نهايتها إلى هذا المصير الذي صار إليه هؤلاء المقبورون.
أيها الناعمون في عيشهم، المدلون بعزهم وجاههم، المفتخرون بقوتهم وجمالهم، لا تحتقروا هؤلاء المقبورين المساكين إن رأيتم أجداثهم مشعثة بالية وقبابهم متهدمة خاوية، ولم تروا أسماءهم منقوشة بأجمل الألوان وأزهاها على صفائح قبورهم، وأصغوا قليلا تسمعوا آيات مدحهم والثناء عليهم ترددها الجداول والغدران والحقول والمروج والطيور المغردة فوق أعالي الأشجار، والسوائم الهائمة على ضفاف الأنهار، فهم أصحاب اليد التي رصعت التاج للملك وصنعت السيف للقائد ونسجت المسوح للراهب وبنت القصور للأمراء وصاغت الحلى للأميرات وغرست العشب للسائمة ووضعت الحب للطائر وهيأت للأحياء جميعهم ناطقهم وصامتهم طعامهم وشرابهم, ودثارهم ومهادهم.
أيها القوم العظماء: لا تخلد التماثيل المنصوبة غير ذكرى ناحتيها, ولا تطمس السطور الذهبية المنقوشة فوق صفائح القبور سطور السيئات التي يخطها التاريخ في صفحاته، ولا تسمع آذان الموت الصماء نغمات الملق المترددة في أناشيد الرثاء.
رب يد تحت هذه الأرض لو أتيح لها الحظ في حياتها لكانت يد العازف الذي يشنف الآذان، أو يد البطل الذي يهز العروش ويزعزع التيجان، أو يد الشاعر الذي يثير الأشجان ويبعث إلى القلوب السرور والأحزان، ورب قلب في هذه الحفائر المظلمة لو عاش في جو غير هذا الجو, وعالم غير هذا العالم لكان قلب ملك عظيم مملوءا بالآمال العظام، والأماني الجسام، أو قلب زعيم جريء يحاسب الظالمين على ظلمهم، ويذود النوم عن أجفانهم، أو قلب نائب كبير يستهوي ببلاغته القلوب ويسترعي الأسماع، فتدوي له بالتصفيق قاعة مجلس النواب أو قاعة مجلس الشيوخ.
كم من لؤلؤة لم تعثر يد الغواص بها فظلت دفينة بين صدفتيها، وكم من زهرة أريجة لم تتفتح حتى هبت عليها رياح الصحراء المحرقة فأذبلتها، وكم من ماسة وضاءة عجز المعدنون عن استخلاصها من معدنها فانطفأ نورها في منجم الفجم المظلم، وكم من قريحة وقادة لم تصقلها العلوم والتجاريب فعاشت مغفلة مهملة حتى انطفأت، ولو أنها صقلتها لغيرت وجه الكون وبدلت الأرض غير الأرض.
نعم, كان بين هؤلاء القرويين المقبورين من كان له قلب كقلب "همبدن" إلا أن التاريخ لا يعرفه، ومن كان له لسان كلسان "ملتن" إلا أنه لم ينصب له تمثال، ومن كانت له همة كهمة "كرومويل" إلا أنه لم يقد الجيوش، ولكنهم عاشوا في هذه الفلوات المنقطعة عن العلم والحضارة, فدفن الجهل مواهبهم، وأخمد الفقر نار ذكائهم وفهمهم، فمروا بهذه الدنيا لم يشعر بهم أحد، ثم ماتوا ولم يذكرهم أحد.
هنيئا لهم جهلهم وخمولهم، فلو أنهم كانوا عظماء لقضوا أيام حياتهم يسفكون الدماء ويمزقون الأشلاء ويغتالون حقوق الضعفاء؛ سعيا وراء أغراضهم ومطامعهم، لا بل إنهم كانوا عظماء ولكنهم بريئون من آثام العظمة وجرائمها.
رحمة الله عليهم, لقد ذهبوا ولم يبق لهم من بعدهم مما يدل عليهم سوى حجر قديم ملقى في طريق مقبرتهم, قد كتب عليه بخط سقيم هذا البيت البسيط من الشعر:
أيها المار في هذا المكان احترم تربته ... ولا تطأ بقدميك رفات الموتى
هذا كل ما طمعوا فيه من شئون الحياة بعد موتهم، لم يطلبوا تمثالا يقام لهم، ولا قبة ترفع فوق أضرحتهم، ولا صفحة من صفحات التاريخ تخلد فيها أعمالهم، بل لم يطلبوا طاقة زهر تؤنس مضجعهم، ولا قطرة غيث تبل ثراهم، فما كان أقنعهم وأزهدهم.













مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید