المنشورات

الزهرة الذابلة:

ورد إلي من حضرة صاحب التوقيع الكتاب الآتي:
أنا تلميد في السابعة عشرة من عمري تحصلت على شهادة الدراسة الابتدائية ثم تقدمت لامتحان الكفاءة فلم أفلح, غير أني عزمت على الكد للعام المقبل وما دريت ما يخفي الغيب في سره حتى فوجئت بمرض "الحمى" العضال الذي ضعضعني, وما كدت أشفى منه بعد مدة حتى أصابني "الصمم" الكامل فضاعت بذلك آمالي وأظلمت الأرض في وجهي, فرأيت أن أستغيث بك لعلك تسدي إلي جميلك بكلمة تعزية من عندك, وأنا أحق الناس بالعزاء والسلام.
6 يناير سنة 1914 ر. م
لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني, فهو فوق ما يحتمل المتحمل ويطيق الجلد الصبور، ولو أنني حاولت ذلك منك لكذبتك وغششتك، ولكان شأني معك شأن أولئك الهازلين العابثين من المعزين الذين يختلفون ليلهم ونهارهم إلى منازل المنكوبين والمرزوئين ليقولوا للثاكل ولده: "لقد قدمت بين يديك شفيعا يشفع لك يوم حسابك بين يدي ربك" وللباكي أباه: "ما مات من خلف مثلك" وللباكي أخاه: "إن في الباقي عزاء عن الماضي" وللباكية زوجها: "الشباب غض والرجال كثير" وللفاقد بصره: "حسبك مما فقدت من نور بصرك ما أبقى الله لك من نور بصيرتك" وللمحتضر المشرف: "إن في لقاء الله عوضا عن لقاء الدنيا" ولمن حلت به نكبة مثل نكبتك: "لقد كفاك الله بما ابتلاك سماع أقوال الكذب, وكلمات السوء" كأنما هم يحسبون أن الفواجع والرزايا صفقات تجارية إذا قاس فيها المرء ربحه بخسرانه ووازن بين دخله وخرجه هان عليه هذا لذاك، واغتفر ما فات لما هو آتٍ، ولا يعلمون أن الحزن على الذاهب المفقود إنما هو زفرة من زفرات الحب أو نفثة من نفثات الوفاء, ولا دخل للحساب والمعاوضة في شيء من ذلك، وأن أقسى الآباء قلبا وأصلبهم فؤادا لو ساومه مساوم في فلذة كبده, ووضع تحت قدميه خزائن الأرض والسماء لكان رأيه في ذلك رأي ابن الرومي في قوله:
وما سرني أن بعته بثوابه ... ولو أنه التخليد في جنة الخلد
وأن الأم تبكي وحيدها كما تبكي عاشر عشرة من أولادها، والصديق يبكي فراق صديقه وإن كثر أصدقاؤه في كل محلة يحل بها, والزوجة تبكي زوجها وإن كان تحت كل نافذة من نوافذ منزلها خطيب يترقبها، وأن البائس المسكين الذي يعيش من دنياه في مثل جحر الضب ضنكا وبؤسا يضن بحياته الضن كله إذا أحس بفراقها وإن علم أنه سينتقل منها إلى جنة عرضها السموات والأرض، فهم في الحقيقة يسخرون من مصائب الناس وأرزائهم ويؤلمون نفوسهم فوق ألمها باحتقار أحزانهم وازدرائها وتصغير شأنها في أعينهم, ويلقون في نفوسهم اليأس من أن يجدوا بجانب قلوبهم قلوبا تحس بإحساسها, وتشعر بشعورها من حيث يظنون أنهم يخففون آلامهم ويأخذونهم بنسيانها.
وأعوذ بالله أن أكون يا بني من الكاذبين في تعزيتك أو الغاشين لك فيها، ولو أردت نفسي على ذلك لما استطعت، وكيف يستطيع أن يعزيك عن مصابك من لا يستطيع أن يعزي نفسه عن مصابه فيك، فلقد ترك كتابك هذا بين جنبي لوعة من الحزن, لا أحسب أنها دون لوعتك التي تعتلج بين جنبيك من الحزن على نفسك، حتى صرت كأني ابتليتُ بما ابتليتَ به وكأن الذي أصابك من البلاء قد أصابني من دونك، فلقد انقطع عنك بفقد سمعك أيها البائس المسكين كل ما كان بينك وبين الناس جميعا من سبب وصلة، فأصبحت وأنت في دار الأنس والاجتماع وبين ضوضاء الحياة وضجيجها كأنك تعيش من وحشتك وكآبتك في مدينة متحجرة من مدن التاريخ القديم, لا تأنس فيها بأحد ولا يأنس بك فيها أحد، ولا ترى بين يديك إلا نصبا مائلة وتماثيل جامدة:
تحسب العين أنهم جد أحياء ... لهم بينهم إشارة خرس
ولا يرفه عن نفسك في ساعة من ساعات ضيقك وضجرك نغمة غناء، ولا رنة حداء، ولا خرير نهر، ولا تغريد طير، ولا حفيف شجر، ولا زفيف ريح، ولا ثغاء شاة، ولا نقيق ضفدع، ولا صرير جندب، سواء لديك ليلك ونهارك، وصبحك ومساؤك، ويقظتك ومنامك، فإن فررت من وحشتك هذه إلى مجتمع من مجتمعات العامة, فجلست إلى الناس ساعة تتفرج1 فيها مما بك لا تسمع شيئا مما يقولون ولا يعنيهم أن يسمعوا شيئا مما تقول، فإن قلبت نظرك في وجوههم لتتسقط حرفا أو كلمة من حركات شفاههم أو إشارات أيديهم أنكروا عليك نظراتك وسخروا منك في أنفسهم، لا بل ربما صارحوك بكلمتهم التي يضمرونها في أنفسهم من حيث لا تعلم، فإن رأوا منك ذلك ورأوا أنك تقتضب الأحاديث بينهم اقتضابا وتذهب منها في أودية غير أوديتهم, وأنك تحدثهم فلا تحسن تقدير صوتك على مقياس أسماعهم فتعلو به عليها أو تنزل به دونها, وأنك تبتسم في موضع التقطيب وتقطب في موضع الابتسام, أصبحوا ينظرون إليك بتلك العين التي ينظرون بها إلى الأطفال الصغار والبله الأغرار، فإن ألممت بسر نظرتهم هذه إليك ألم بك من الحزن والهم ما لا طاقة لمثلك في سنك وضعف منتك باحتمال مثله, وأصبحت ترتاب بكل نظرة تتجه إليك وكل ابتسامة تتراءى لك واعتادك سوء الظن بكل جالس يجلس إليك من أصدقائك وأقربائك وذوي رحمك، بل من أبويك وإخوتك، فلا يكاد يسلم لك صديق أو يصفو لك حميم.
فإن فررت من الناس نجاة بنفسك من لؤمهم وقسوتهم فررت إلى خلوة موحشة قاتمة تتراءى لك فيها خيالات الذكرى المؤلمة كلما وازنت بين حاضرك وماضيك, وقارنت بين ما كنت ترجو لنفسك في أيامك الأولى وما انتهى إليك أمرك في أيامك الأخرى، فلا تنفعك خلوة، ولا يؤنسك اجتماع.
وأخوف ما أخاف عليك إن استمر بك هذا الشأن -ولا أسأل الله لك دوامه- وظللت تنطق ولا تسمع، وتقول ولا تفهم ما يقال، أن تصبح في يوم من أيامك لا سامعا ولا ناطقا، فالسماع مادة النطق التي يستمد منها قوته وحياته، ومن لا يسمع لا يحسن النطق، ومن لا ينطق لا يحسن التفكير.
وكثير عليك يا بني وأنت زهرة يانعة في روض الشباب, وابتسامة لامعة في ثغر الآمال, وفجر مشرق في سماء الحياة أن تعلو هذه الربوة الزاهرة المخضلة من ربا الحياة, فلا تلبث فيها إلا قليلا حتى يمر بك فارس الدهر فيختطفك من مكانك, ثم يعدو بك عدو الظليم المذعور حتى يلقيك على هذه الصخرة الصماء.
فوا رحمتاه لك يا بني مما بك اليوم ومما يستقبلك به الدهر غدا، فأسأل الله تعالى لك أن يرفع عنك محنتك، أو يمنحك عينا ثرة من الدمع لا ينضب معينها، تسكب منها صباح كل يوم ومساءه سجلا على فؤادك الملتاع فتبرد غلته، وتفثأ لوعته، فالدموع هي الرحمة العامة التي يلجأ إليها المنكوبون والمحزونون يوم لا يجدون لأنفسهم في مذهب من مذاهب الأرض, ولا في شعب من شعاب السماء ناصرا ولا معينا, والسلام عليك من الرائي لك الباكي عليك ورحمة الله.














 مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید