المنشورات

في أكواخ الفقراء:

مترجمة
مضى الليل إلا قليلا والظلام مخيم على الكون بأجمعه والكواكب ملتفعة بأردية السحب ما يستشف منها الناظر بصيصا ولا قبسا، والفضاء بحر خضم مترامي الأرجاء إلا أنه ساكن الصفحة، جامد الحركة، يقصر فيه قاب العين، وتضل في تيهه أشعة النظر حتى عن نفسها، والغيوث منهلة متواصلة تهمي بقوة واحدة وقوام واحد، لا تغزر ولا ترقّ، ولا تلتف خيوطها ولا تختلف نغمتها، كأنما هي شباك, ممتدة بين السماء والأرض، وكوخ السماك "فيليب" جاثم في مجثمه بين الأكواخ المحيطة به لا يرى فيه الداخل غير مصباح ضئيل تجاهد ذبالته جهادا شديدا في تمزيق قطع الظلام المتكاثفة حولها، ومجمرة هامدة قد خبت نارها إلا بقايا جمرات شاحبات قد التفت بأكفانها البيضاء، وأخذت طريقها في مدرجة الفناء، وقد يرى الناظر على ضوء ذلك المصباح الضئيل بضع شباك ومذاود معلقة بالجدران كأنها الأشباح الماثلة، ومنضدة عارية قد نُشرت فوقها بضعة أوانٍ نحاسية تلمع لمعانا ضعيفا في ذلك الحندس كأنها عيون الجنادب، فإذا دار الواقف بنظره حوله رأى حشية مطرحة على الأرض قد اضطجع فوقها ثلاثة أطفال متلاصقين آخذ بعضهم بأعناق بعض كما تتآخذ الأفراخ في أعشاشها، وكما يضم الخوف الضلوع إلى الضلوع، وعلى مقربة من فراشهم امرأة صفراء شاحبة جاثية على ركبتيها تصلي وتبتهل وتدعو الله تعالى بصوت خافت متهافت أن يرد لها زوجها سالما وكان قد خرج كعادته لصيد السمك من البحر, فلم يعد حتى الساعة.
وإنها لكذلك إذ هبت الزوبعة هبوبا عظيما, فاهتزت لها جوانب الكوخ اهتزازا شديدا وأنَّ لوقعها الأطفال في لفائف أغطيتهم فطار قلبها فزعا ورعبا، وخيل إليها أن هدير الأمواج ودمدمة الرعود وزفيف الرياح وقعقعة السقوف والجدران إنما هي نذر السوء تنذرها بمصير زوجها المسكين في أعماق ذلك الأوقياس العظيم، فظلت تردد بينها وبين نفسها: رب إني بائسة مسكينة لا سند لي ولا عضد، وإن هؤلاء الأطفال الصغار عاجزون لا يستطيعون أن يقوتوا أنفسهم, ولا أن يعتمدوا على حولهم وحيلتهم في شئون حياتهم، فاحفظ لي ولهم حياة ذلك الرجل المسكين الذي أسلم أمره إليك، وأودع حياته بين يديك، وخرج في طلب الرزق من عندك ليعود به على هذه الأسرة الفقيرة المعدمة, فلم يعد حتى الساعة، ولا ندري ما فعلت به يد الأقدار.
ما أعظم بؤسنا وشقاءنا نساء الصيادين وأولادهم!
إنهم يتركوننا وحدنا في هذه الأكواخ الموحشة ويذهبون لطلب العيش في ذلك التيه العظيم الذي لا نهاية لعمقه ولا حد لاتساعه ولا عاصم من مخاطره، ويحاولون انتزاع رزقهم من بين ماضغي تلك الأمواج الموثبة الفاغرة أفواهها كالذئاب الجائعة تحاول التهام كل ما يدنو منها، ولعل القدر الذي نخشاه عليهم في هذه الساعة قد نزل بهم فلم تغن عنهم شيئا تلك الألواح الخشبية الرقيقة التي يسمونها زوارق، ولعلهم لبثوا ساعات طوالا يصارعون الأمواج وتصارعهم حتى غلبتهم على أمرهم فداروا بأعينهم من حولهم ليفتشوا عن زوارقهم المنقلبة فلم يروا منها إلا بقاياها المتطايرة في أيدي الرياح, فحاولوا أن يسبحوا إليها فأفلتت من أيديهم, فنال منهم العياء فهووا إلى ذلك القاع العميق ليصبحوا فيه طعاما للأسماك التي كانوا يظنون منذ ساعة أنها ستصبح طعاما لهم، هنالك يأتينا نعيهم فنبكي ونندب ونهرع إلى الشاطئ والهين مدلهين, ونقف أمام ذلك العالم المجهول الغامض صائحين أن رد إلينا أيها الوحش المفترس بعولتنا وأولادنا وأفلاذ أكبادنا, أو تكشف عن نفسك قليلا علنا نرى جثثهم في قاعك، فلا نسمع ملبيا ولا مجيبا.
وهنا هدأت الزوبعة قليلا وخفتت أصوات الرياح, فسكن بعض ما بها ونهضت من مكانها فتناولت المصباح, وفتحت باب الكوخ وقلبت وجهها في أفق السماء لترى كم بقي بينها وبين الصباح، وكان الظلام لم يزل حالكا والمطر لم يزل متدفعا, فمدت يدها بالمصباح أمامها لترى هل من مقبل يتقدم أو شبح يتحرك, فلم يقع نوره إلا على كوخ بعيد منفرد لا نور فيه ولا حركة, فتذكرت حينما وقع عليه نظرها أنه كوخ تلك الأرملة المسكينة "جانت" التي مات زوجها غريقا منذ بضعة شهور وخلف لها أطفالا صغارا تقاسي الآلام الشداد والأهوال العظام في تدبير عيشهم وتقويم أودهم، فمر بخاطرها أن تزورها وتتعرف حالها؛ لأنها كانت تعلم أنها مريضة مدنفة, وأنها كابدت ليلة أمس من دائها عناء عظيما، وأقرب ما تكون النفوس إلى النفوس إذا جمعتها في صعيد واحد هموم الحياة وآلامها، فأخذت طريقها إلى ذلك الكوخ حتى بلغته, فوقفت على بابه وقرعته مرارا كثيرة فلم يرد عليها أحد, فدفعته ففتح فدخلت رافعة مصباحها بيدها فأنار لها ما حولها, فرأت بين يديها للنظرة الأولى ما أرعد فرائصها, واستوقف دقات قلبها, وأمسك الدم عن جريانه في عروقها.
رأت الكوخ يهتز ويضطرب في أيدي الرياح المتناوحة, ورأت مياه الأمطار تسيل من سقفه الواهي الأخرق فتبلل كل شيء فيه، ورأت فراشا قذرا من القش قد رقدت فوقه الأرملة "جانت" رقدة ساكنة جامدة لا حس فيها ولا حركة، فدنت منها فإذا هي ميتة، وإذا قطرات من الماء تنحدر على جبينها ورأسها وغطائها البالي الممزق، فوقفت أمام هذا المنظر المخيف المرعب ذاهلة مشدوهة, ثم صاحت:
هذه نهاية الفقراء على ظهر الأرض، وهذا مصيرهم الذي يصيرون إليه بعد جهادهم في سبيل الحياة زمنا طويلا.
إنهم يعيشون في هذا العالم مجهولين مغمورين لا يعرفهم أحد, ثم يخرجون منه متسللين متلاوذين لا يشعر بخروجهم أحد حتى أهلوهم وذوو أرحامهم.
ما يدريني أن لا يكون مصيري ومصير أولادي غدا هذا المصير الذي أراه الآن، وقد لا تدخل علينا في تلك الساعة جارة مثلي ترانا, وترثي لحالنا كما أرثي الآن لحال هؤلاء المساكين.
ثم خلعت رداءها فأسبلته على جثة الميتة ودارت بمصباحها في أنحاء الغرفة, فرأت طفليها الصغيرين نائمين على فراشهما وجها لوجه, وعلى ثغر كل منهما ابتسامة صغيرة كأن شبح الموت الهائم حول مضجعهما لا يخيفهما ولا يزعج سكونهما, ورأت رداء أمهما وكانت تعرفه قبل اليوم مسبلا على جسمهما, فخيل إليها أنها ترى منظر تلك المرأة المسكينة قبل ساعة أو ساعتين وهي تعالج في فراشها سكرات الموت ثم تلتفت من حين إلى حين إلى طفليها النائمين, والمطر يتساقط عليهما والبرد يعبث بأعضائهما فتشفق عليهما وترثي لهما حتى ضاقت بها ساحة الصبر, فخلعت عنها رداءها وهي أحوج ما تكون إليه وألقته عليهما, ثم ألقت بنفسها على فراشها وأسلمت روحها.
وقفت ماري أمام هذه المناظر المؤلمة والريح تئن أنين الوالهين المتسلبين والموج يعج عجيج أجراس الموت وقطرات الماء تنحدر من جبين الميتة إلى خديها الشاحبين كأنما هي تذرف دموع الحزن على فراق ولديها، وكان الفجر قد أخذ يمسح عن وجهه صبغة الظلام ويرسل بعض أشعته في جوانب الكوخ, فأطفأت المصباح الذي بيدها ووضعته جانبا, ثم جثت بجانب الميتة وصلت لها ما شاء الله أن تفعل, ثم نهضت ومشت إلى مكان الطفلين وانحنت عليهما وحملتهما برفق وسكون وسارت بهما حتى بلغت كوخها, فوضعتهما بجانب طفليها وأسبلت عليهم جميعا رداء واحدا.
ثم جلست بجانبهم تقول بينها وبين نفسها: لا أدري أأصبت فيما فعلت أم أخطأت؟ وإنما أدري أن المرأة التي أودع الله قلبها شعور الأمومة ورحمتها لا تستطيع أن ترى طفلين طريحين على فراشهما في كوخ عارٍ من كل شيء إلا من جثة أمهما ثم تتركهما وشأنهما دون أن تعلم ما مصيرهما بعد ذلك.
إن المنظر الذي رأيته ما كان لا يسمح لي بالتفكير في نتيجة العمل الذي أعمله، فإن تبين لي بعد ذلك أني مخطئة، فليس معنى هذا أني كنت أستطيع تجنب الوقوع في هذا الخطأ؛ لأن قلبي من لحم ودم لا من فولاذ وصوان.
نعم, إن زوجي فقير وإن طفليّ معدمان لا يكادان يشبعان من الخبز, وإن عناءنا في تربية أربعة أطفال سيكون ضعف عنائنا في تربية طفلين، ولكن لا يجوز لنا ضنا براحة أنفسنا أن نترك طفلين صغيرين يموتان على مرأى منا, ومسمع بردا وجوعا.
ذلك ما سأقوله لزوجي عند رجوعه، وما أحسبه قاسيا ولا متوحشا فينقم عليّ فعلتي هذه ويأمرني بإلقائهما خارج الباب. 
ثم وقفت عن الكلام فجأة؛ لأنها سمعت صرير الباب وهو يدور على عقبه فارتعدت ثم علمت أنها الريح, فأطرقت برأسها ساعة ذهبت فيها بتصوراتها وأفكارها كل مذهب, فبكت وضحكت، وغضبت ورضيت، وأمّلت ويئست، ورحمت وقست، وحمدت فعلتها وندمت عليها, وأحسنت الظن بزوجها وأساءته به، وظل فؤادها نهبا مقسما في يد الهموم والأفكار حتى شعرت بسواد يتقدم نحوها فاستطير قلبها خوفا ورعبا وانتبهت, فإذا زوجها داخل يحمل شبكته وأعواده على ظهره والماء يقطر منها, فنهضت إليه وعانقته ثم ألقت نظرها على وجهه فأنكرت شحوبه وتضعضعه كما أنكر ذلك من وجهها حين رآها, وسألته: كيف كان حظه الليلة؟ وماذا كان شأنه مع العاصفة؟ فألقى بشباكه وقصبه على الأرض وظل يقول: أما الليلة فكانت مزعجة جدا لم أر في حياتي مثلها، وأما الصيد فها هي يدي صفر منه كما ترين، ولولا رحمة الله بي وبكم لهلكت، وما أنا بآسف على شيء ما دمت أراكم بخير، كيف حال الولدين؟ فارتعشت وقالت: هما بخير، قال: ما لي أراك شاحبة صفراء؟ وكيف قضيت ليلتك؟ فأطرقت برأسها وقالت: قضيتها في خياطة قميصين للولدين، وكنت كلما سمعت صوت العاصفة وهدير الأمواج خفت عليك، أما الآن فقد زال كل شيء والحمد لله، ثم نظرت إليه وبين شفتيها كلمة تحاول أن تنطق بها فلا تستطيع، ثم استنصرت جلدها وقوتها وقالت: وشيء آخر أحزنني جدا، قال: وما هو؟ قالت: قد علمت الساعة قبل رجوعك بقليل أن جارتنا "جانت" توفيت, وأن ولديها الصغيرين قد أصبحا وحيدين في هذا العالم, لا عائل لهما.
فاضطرب عند سماع هذه الكلمة ونهض من مكانه وتمشى قليلا, ثم ألقى بقبعته المبللة بالماء على سريره وظل يعبث بشعر رأسه فيشده أحيانا, ويمسحه أخرى وهي تتبعه بنظراتها لتقرأ صورة نفسه على وجهه، ثم جلس على المنضدة الممتدة في وسط الكوخ وظل يقول بينه وبين نفسه بصوت ضعيف متهدج:
رب, إني وإن كنت رجلا جاهلا فدما وليس في استطاعتي أن أفهم حكمتك في حرمان هذين الولدين البائسين من أمهما, إلا أنني لا أستطيع أن أنكر وجودهما، ولعل الذين يعلمون أكثر مما أعلم يفهمون من شئونك وتصرفاتك أكثر مما أفهم.
نعم, إنني فقير مسكين, أعيش تحت رحمة المصادفات والاتفاقات, وربما مر علي وعلى أولادي عدة أيام لا نجد فيها ما نأتدم به, ولكن ماذا أصنع وقلبي يتألم لحال هذين اليتيمين الصغيرين أكثر مما يتألم من الجوع والسغب؟
ثم التفت إلى زوجته, وقال لها: إنني متألم جدا يا مدلين, ويخيل إلي أن روح تلك المرأة المسكينة واقفة الآن أمام هذا الباب تقرعه وتضرع إلينا أن نأخذ ولديها إلينا, ونكفلهما من بعدها، ولكن كيف العمل يا إلهي؟
فقالت: إني أكاد أسمع هذا الصوت الذي تسمعه يا فيليب, وإن ألمي عظيم كألمك.
فصمت هنيهة ثم انتفض انتفاضة شديدة ودنا منها وقال لها: ألم يمت لنا طفلان في العامين الماضيين يا مدلين؟ قالت: بلى، قال: ماذا كنا نصنع لو أنهما بقيا حيين حتى اليوم؟ قالت: لا شيء سوى أننا نفزع إلى الله في أمرهما، قال: فلنفزع إلى الله في أمر هذين الطفلين اليتيمين وكأن ولدينا بقيا حيين حتى اليوم، أو كأنهما بعثا من قبرهما بعد موتهما.
اذهبي إليهما يا مدلين وأحضريهما؛ فربما استيقظا بعد هنيهة من نومهما فرأيا منظر أمهما الميتة في فراشها, فماتا خوفا ورعبا.
اذهبي إليهما واحمليهما برفق وهدوء دون أن توقظيهما وأضجعيهما على فراش ولدينا, فسيكون منظرهم جميعا غريبا جدا حينما يستيقظون من نومهم وينظر بعضهم في وجوه بعض، وحرام علي النبيذ واللحم بعد اليوم حتى أستطيع أن أقوم بنفقة هذه الأسرة الكبيرة التي أصبحتُ سيدها وعائلها، اذهبي يا مادلين وثقي أن الله سيملأ علينا بيتنا خبزا وفحما ببركة هؤلاء الأطفال الطاهرين.
فتهلّل وجهها بشرا وسرورا, ونهضت من مكانها ومشت إلى مضجع الأطفال فرفعت عنهم الغطاء, ونظرت إلى زوجها صامتة لا تقول شيئا, فما وقع نظر "فيليب" على هذا المنظر الغريب حتى استطير فرحا وسرورا, وهرع إلى زوجته واحتضنها إلى صدره وقال لها: ما أشرف قلبك يا مادلين!
"يا سكان القصور"
ليتكم من سكان الأكواخ؛ لتستطيعوا أن تكونوا من المحسنين.















مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید