المنشورات

العاصفة:

إن قلبي يرتعد خوفا وفرقا، أسمع قعقعة في جوف السماء فهل هي نذير العاصفة التي يريد الله أن يرسلها علينا؟ أرى الوجوه شاحبة والعيون حائرة والجباه عابسة, فهل شعر الناس بويل مقبل انقبضت له صدورهم, واقشعرت له جلودهم؟
ما هذا المنظر المرعب المخيف؟ ما هذه الضوضاء المرتفعة بالمجادلات والمناقشات في المجتمعات العامة والخاصة؟ ومن هم هؤلاء الذين يتصارعون ويتجاذبون ويبغي بعضهم على بعض؟ إن كانوا مصريين فويل لمصر وأهلها ومستقبل الحياة فيها بعد اليوم، كذلك كان شأن الأمم البائدة في أدوار سقوطها واضمحلالها, وفي ساعة وقوفها على حافة الهوة العميقة.
لقد ظننت في ساعة من ساعات حياتي أنني قد أمنت على مصر أبد الدهر, وكان قلبي يستطير فرحا وسرورا كلما سمعت تلك "الجوقة" الموسيقية الجميلة تتغنى في أرجائها بنغمة واحدة وتوقيع واحد، وكنت أصغي إليها بسرور واغتباط إصغاء العاشق الولهان إلى تغريد الحمائم المترنمة فوق أفنانها، ثم ما لبثت أن شعرت أن النغمة قد اختلفت، والتوقيع قد اضطرب، فذُعرت وارتعبت ورفعت رأسي فإذا أنا في "بيزنطية" وإذا الناس جميعا في كنيسة أيا صوفيا يتناقشون ويتجادلون جدالا شديدا في مسألة الطبيعة والطبيعتين, وأبواب المدينة تقعقع تحت ضربات معاول العدو, فلا يسمعون لها صوتا.
كنا جميعا وكان الشمل منتظما، وكان كل ما يعزينا عن بؤسنا وشقائنا منظر تلك الوحدة الجميلة التي كنا نشرف على روضتها الزاهرة الغناء من نوافذ سجننا فتهون علينا همومنا وآلامنا، ولم يكن منظر في العالم أجمل ولا أبدع من منظر تلك الدموع الرقراقة التي كانت تتلألأ في عيوننا جميعا؛ لأنها كانت في الحقيقة دموع السرور والاغتباط باتحادنا واتفاقنا, ووحدة كلمتنا وقوة جامعتنا.
لا تزال العاصفة تدوي وتعصف، ولا يزال البناء يضطرب ويهتز، فليت شعري هل يتماسك ويعود إلى سكونه واستقراره؟ أم قدر له السقوط كما قدر لأمثاله من البنى في عهود التاريخ الغابرة؟
ها هو ذا سعد يمسك البناء بيده أن يتداعى ويتهدم, ولكنه قد تعب جدا ونال منه الجهد والنصب لأن الحمل ثقيل, ولأن الهادمين من خصومه المصريين معتزون بالقوة الخارجية وقوتهم لا تفنى، فهل تستطيع الأمة أن تمد يدها إليه وتعينه على عمله الشاق؟ هنالك قوتان هائلتان جدا؛ قوة العدو الخارج مستترة، وقوة العدو الداخل ظاهرة، وهما تعملان معا بنظام واحد وفكرة واحدة لغرض واحد، هو أن تسلمنا أخراهما لأولاهما، فلنتقدم نحوهما بقوة أعظم من قوتهما شأنا وأكبر خطرا وهي قوة العقيدة الراسخة والإيمان الثابت والثقة بالنفس والأمل الواسع والثبات على المبدأ نظفر بهما ونقض عليهما, فلا يبقي لهما عين ولا أثر.
إن الساسة الإنجليز يريدون أن يمزقوا شمل وحدتنا الوطنية التي بذلنا في سبيلها الشيء الكثير من ذات أنفسنا, وذات أيدينا ليستثمروا شقاءنا وآلامنا, فهل نسمح لهم بذلك؟!
لا، فقد أصبحت الأمة غير الأمة والعقول غير العقول والأفهام غير الأفهام، وليست هذه النهضة التي نهضناها اليوم ترديدا لأصوات القائلين، أو تقليدا لحركات الناهضين، أو فصلا تمثيليا، أو لعبة بهلوانية، وإنما هي عقيدة راسخة في النفس رسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، فليطلبوا لهم مرتزقا غير هذا المرتزق، في سوق غير هذه السوق، فما نحن بسلع تباع وتُشرى، ولا بمأدبة عامة يهوي إليها الغادون والرائحون.
إننا لم نجاهد يوم جاهدنا من أجلهم، بل من أجل وطننا، ولم نغنم في معاركنا التي أدرناها هذه الوحدة الشريفة لنضعها يوم نظفر بها في أيديهم يمزقون شملها, ويشوهون صورتها, ويلعبون بها لعب الصوالج بالأكر.
محال أن نسمح لهم بها طائعين مختارين، فهي حياتنا وروحنا وأثمن ما تملك أيدينا وخير ما استفدنا من جهادنا، بل كل ما استفدناه منه, وسنذود عنها ذود الأم الرءوم عن واحدها، والعذراء العفيفة عن عرضها، وسنبذل في سبيل استبقائها في أيدينا فوق ما بذلنا في سبيل الحصول عليها.
ليس من السهل علينا ولا مما تحتمله أطواقنا أن يتحدث الناس عنا -وقد بدءوا يتحدثون- أن تلك النهضة التي نهضناها إنما كانت رواية تمثيلية، خلبنا بها عقول المتفرجين ساعة من الزمان، حتى إذا نزل الستار عليها إذا الوجوه الوجوه والصور الصور، وإذا الداء القديم والمرض العضال.
إن الشرق لم يشق بالجهل ولا بالضعف كما يقولون، فلطالما عاش الضعفاء والجهلاء أحرارا مستقلين بفضل اتحادهم وقوة جامعتهم، بل لأنه يوجد في كل شعب من شعوبه أقوام أمثال هؤلاء الأقوام الذين ابتلينا بهم في مصر, خبثاء الأغراض والمقاصد موتى العواطف والمشاعر، لا يتألمون إلا لأنفسهم، ولا يبكون إلا على نقص في أموالهم وثمراتهم.
والشعب المصري أول شعب شرقي نهض نهضة سياسية في هذا العصر ثم مشت الشعوب الشرقية بعد ذلك على أثره، فيجب أن يكون أول شعب يعرف كيف يمحق الدسيسة الكامنة بين أحشائه لتتعلم منه الشعوب الأخرى كيف تمحق الدسائس الكامنة بين أحشائها فيعود بالفخرين، ويلبس التاجين.
إنا لا نريد أن نحارب المنشقين والخارجين، فالقوة التي لا قبل لنا بها من ورائهم تحميهم، ولا أن نجادلهم، فإن لهم تحت جلدة وجوههم ذخيرة من السماجة والصفاقة كافية لإنكار أن الأرض أرض والسماء سماء, وأن هناك فرقا بين لون الليل ولون النهار، بل نريد أن نقي أنفسنا شر دسائسهم ومكائدهم ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا أعرضنا عنهم وصنا أنظارنا عن رؤية وجوههم، وأسماعنا عن سماع أصواتهم، كما يتعوذ المتعوذ من الشيطان الرجيم، فإن فعلنا فقد انتصرنا انتصارا عظيما لم نوفق إلى مثله في جميع أدوار تاريخنا من عهد "سيزستريس" حتى اليوم، وإلا فما خلق الله في العالم خلقا أهون على الله, وعلى الناس منا.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید