المنشورات
حكم القوة:
اكتبوا يا أنصار سعد عرائض الثقة به عشرات ومئات وألوفا وعشرات الألوف, فإن ذلك لا يجديكم نفعا ولا يغني عنكم شيئا؛ لأن القوة أصدرت حكمها بأنكم من أنصار الحكومة وأوليائها. ألفوا الوفود العظيمة من جميع مدنكم وقراكم وعزبكم وكفوركم حتى يبلغ مجموع عددها ثلاثة عشر مليونا وتسعمائة وتسعة وتسعين ألفا, فأنتم جميعا حمقى لا قيمة لكم، ولا عبرة برأيكم، ولا يوجد فيكم عاقل ولا رشيد غير تلك الألف الواحدة التي تخلفت عنكم، وانفصلت عن صفوفكم.
املئوا الأرض صراخا وعويلا بالشكوى من الافتيات عليكم في أمركم الخاص بكم وبمستقبل حياتكم وحياة أولادكم وأحفادكم, فإن رجلا فضوليا من رجالكم لا شأن له ولا قيمة هو الذي عبث بعقولكم وأغراكم بهذا السخط والغضب والصراخ والعويل، ولو أنه ترككم وشأنكم لاستحال بكاؤكم ضحكا وابتهاجا، وخوفكم وقلقكم سكونا وارتياحا، ولأسلمتم بلدكم إلى أعدائكم راضين مغتبطين.
اجمعوا جموعكم الهائلة في أي مكان تريدون, واهتفوا بجميع ما يمر بخواطركم من أمانيكم الوطنية ورغباتكم القومية حتى تبح أصواتكم, وتنشق حلوقكم فأنتم في نظر الساسة الإنجليز لصوص مجرمون ما خرجتم مخرجكم هذا إلا لسرقة الحوانيت ونقب الجدران واختطاف الأمتعة من أيدي المارة وتكدير صفاء الناس والإخلال بالأمن العام.
لا تتركوا وسيلة من الوسائل تعلمون أنها تعبر عن مشاعركم وخوالج نفوسكم إلا واتخذوها وتذرعوا بها, فهي جميعها مظاهر كاذبة ومناظر تمثيلية؛ لأن القوة قد حكمت بذلك، وحكم القوة هو الحكم العادل الشريف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا هو ما يجري الآن في جو مصر، وهذا ما سيجري في جوها غدا ما بقيت الوزارة في مركزها, أو خلفتها وزارة مثلها.
اقتطعت السياسة الإنجليزية قطعة صغيرة من الضعفاء عن الوفد والأمة وسمتها "الأمة" بعد أن عجزت عن ذلك عامين كاملين، فهي تتعهدها بالعناية والرعاية وتحوطها بالصور والتهاويل تعظيما لشأنها وتفخيما لأمرها, وتصقل في كل يوم صفحتها وتجلوها ليكون لها بريق يخطف الأبصار ويختلب الأنظار, تفعل ذلك كله لتتخذها تكأة تتكئ عليها في الثقة بالمفاوضين الرسميين اليوم والتصديق على المعاهدة المنتظرة غدا، وما هي إلا رواية واحدة تعرض فصولها على مسرح التمثيل فصلا فصلا, حتى ينزل الستار على الفصل الأخير منها.
أما الأمة نفسها فهي في نظر الصحف الإنجليزية أقلية ضعيفة جدا أو مجموعة خاملة بلهاء لا عقل لها ولا فكر، فإن نطقت فنطقها مصطنع، وإن بكت فبكاؤها مكذوب، وإن احتجت فاحتجاجها عصيان، وإن صاحت فصياحها ثورة، وإن صمتت فصمتها تسليم وإذعان، وإن رفضت أن توقع على صك شقائها فلا قيمة لرفضها أو قبولها؛ لأن الأمة شيء سواها.
آه ماذا نعمل، لقد بحت أصواتنا وحفيت أقدامنا ونضبت محابرنا وجفت أقلامنا في سبيل الشكوى من هذا الحال, فلم نجد راحما ولا معينا حتى من أبناء وطننا الذين يفهمون لغتنا ويدركون شعورنا ويحسنون قراءة البؤس والألم المسطور على جباهنا، كأن العالم كله ألب علينا وكأن قد سدت من دوننا أبواب السماء فلا تصعد شكوى, ولا ينفذ دعاء.
ولقد كنا نستطيع أن نحمل أنفسنا على الرضا بما قدره الله لنا في مستقبل حياتنا لو أن ذلك الذي يراد بنا لا يجري باسمنا ولا يطبع بطابعنا, فتستمر حجتنا قائمة ما دامت الأرض أرضنا والسماء سماء، ولكن من لنا بالراحة وهدوء النفس واستقرارها, وها هي وفود الثقة بالحكومة تفد إليها من جميع أنحاء البلاد، وها هي عرائض تأييدها ونصرها تملأ دفاترها وسجلاتها, ولا يعلم غيرنا طريقة التوقيع عليها.
وعدتنا الوزارة بالنزول على رأينا في مبدأ تأليفها فلم تفعل، فاقترحنا عليها إشراك وفدنا معنا في العمل فاعتذرت، فطلبنا منها التخلي عن مركزها فأبت، فسألناها عقد الجمعية الوطنية لأخذ رأيها في اختيار المفاوضين الرسميين فامتنعت، فسألناها أن تذهب للمفاوضة باسمها لا باسمنا وألا تجعل ثقتنا بها أساس مفاوضتها فرفضت.
لقد سدت السبل علينا جميعها، وانقطع الرجاء بنا، ولم يبق بين أيدينا إلا رجاء واحد هو أن نمد يد الضراعة إلى إخواننا الخارجين علينا من أعضاء الوفد وغيرهم, قائلين لهم: الرحمة الرحمة أيها الأصدقاء بأنفسكم وبأمتكم, فنحن جميعا أبناء وطن واحد, تقلنا أرض واحدة وتظلنا سماء واحدة, فعودوا إلى صفوفنا وضعوا أيديكم في أيدينا, فلا سبيل لعدونا أن ينال منا قلامة ظفر إن أنتم عدتم إلينا، ولا يوجد شيء في العالم كله يحول بينه وبين إهلاكنا جميعا إن بقيتم خارجين علينا.
تعالوا إلينا لنسعد معا إن قدرت لنا السعادة في مستقبل حياتنا أو نشقى معا إن كانت الأخرى، بل لنعيش سعداء في كلتا الحالتين، فلا سعادة في الدنيا غير سعادة الحب والسلام، ولا شقاء غير شقاء الانقسام والانشقاق.
إننا لا نتهمكم بخيانة ولا ممالأة؛ لأن الدم المصري لا يحمل بين كراته كرة اللؤم والغدر, ولكنا نعتقد أنكم مخدوعون وأنكم ما أتيتم من ناحية الخيانة والممالأة بل من ناحية السذاجة والبساطة وضعف القلب وغرارة النفس والثقة العمياء بوعود أولئك القوم الذين ما صدقوا في وعد من وعودهم مرة واحدة، ولا عجزوا عن أن يجدوا من يصدقهم في كل مرة يكذبون فيها، فالوعود سلعتهم التي يتجرون فيها، والخلف ربحهم الذي يربحونه منها.
ولو أنكم روأتم في الأمر قليلا ونظرتم إلى المسألة بعيونكم لا بعيونهم, لعلمتم أن لا استقلال هناك ولا شبه استقلال ولا شيء مما يعدوننا به ويمنوننا، وكل ما في الأمر أنهم يريدون وضع الحماية الرومانية موضع الحماية الإنجليزية، وهي التي كان يبسطها الرومان في تاريخهم القديم على الأمم الضعيفة باسم المحالفة والمعاهدة، أي: إنهم يريدون أن نصدق لهم على الحماية التي بسطوها علينا في سنة 1914 بعد أن عجزوا عن ذلك سبعة أعوام، ونحن لا نريد أن يكون حظنا معهم حظ ذلك الرجل الذي انتزع منه بعض المغتصبين آنية فضية فذهب إليه ليستردها منه, وهدده برفع أمره إلى الشرطة إن لم يفعل، فقال له: لا أعطيك إياها حتى تكتب لي صكا بأن الآنية هدية منك إلي حتى آمن غدرك بي فيما بعد، فكتب له الصك الذي أراد وأعطاه إياه، فاحتفظ بالصك ولم يعطه الآنية.
تعالوا أيها الأصدقاء إلى صفوفنا, ولا تصدقوا أن أعداءنا يعطوننا متفرقين ما يعطوننا مجتمعين، فإن كان لا بد لنا من أن نستمر في مفاوضتهم وكان قد بقي لنا شيء من الأمل فيهم فلنذهب إليهم جميعا صفا واحدا تحت قيادة قائد واحد نلقي إليه قيادنا، ونمنحه نصرنا وتأييدنا، فإن نجحنا فذاك، وإلا فحسبنا من الفخر والشرف أننا أول أمة شرقية قد نجت من حبائل المستعمرين, ومكائدهم.
سيكتب التاريخ صفحاته غدا, والتاريخ لا يجامل ولا يحابي ولا يقبل هوادة ولا عذرا, ولا يصدق كلمة واحدة من هذه الكلمات التي تعتذرون بها اليوم عن أنفسكم، ولا يستطيع أن يكتب إلا أن الأمة المصرية كانت يدا واحدة وقوة واحدة، ولم يكن بينها وبين نجاحها في قضيتها إلا أيام قلائل فخرجتم من صفوفها فانتقض عليها أمرها وأفلت النصر من يدها، فاحذروا أن يكتب التاريخ عنكم هذه الكلمة المخزية، واتقوا يوما يفتح فيه أولادكم وأحفادكم هذه الصحيفة السوداء من تاريخكم فيطرقون حياء وخجلا حينما يرون أن هذه الأسماء التي يقرءونها إنما هي أسماء آبائهم وأجدادهم.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)