المنشورات

إلى خصوم سعد باشا:

1- سعد باشا خصم السياسة الإنجليزية في مصر وعدوها الألد ما في ذلك شك ولا ريب، فجميع خصومه السياسيين من المصريين أصدقاء لتلك السياسة وأعوان لها على أمتهم.
هذا الذي أستطيع أن أفهمه ويفهمه الناس جميعا، ولا فرق عندي بين أن توضع في عنقي جامعة أقاد بها إلى دار المارستان لأقضي فيها بقية أيام حياتي, وبين أن أفهم غير ذلك.
فاشتموا يا خصوم سعد سعدا ما شئتم، وتفننوا في النيل من كرامته ما أردتم، فلا معنى لذلك عندنا إلا أنكم آلة صماء في يد السياسة الإنجليزية، تتولون بالنيابة عنها زحزحة العقبة الكبرى التي تعترض طريقها وتعرقل مساعيها، وتقف سدا حائلا دون تنفيذ تلك الفكرة الجهنمية الهائلة، فكرة تسجيل الحماية الإنجليزية على مصر، واحلفوا بالله جهد أيمانكم أنكم وطنيون مخلصون ما خلق الله بين أرضه وسمائه خلقا أطهر قلبا ولا أنقى سريرة ولا أنبل مقصدا منكم، وأنكم لا تريدون بما تفعلون إلا خير الوطن وأهله، وهناء الأمة وسعادتها، فليس بمغنٍ عنكم عندنا شيئا؛ لأن الوطني لا يحارب الوطني ولا يبتغي له الغوائل، ولا ينصب الحبائل لهدمه وإسقاطه.
دعوى الوطنية كلمة بسيطة تصدر من الفم بسهولة، كما يتنفس المتنفس ويتنهد المتنهد، وقد نطق بها جميع الناس في مصر حتى "سكينة" مجرمة الإسكندرية، فقد زعمت أنها إنما كانت تخدم الوطن بقتل النساء العاهرات ليعتبر بمصرعهنّ الحرائر الشريفات, فلا يسقطن في مثل ما سقطن فيه، فهي دعوى محتاجة دائما إلى برهان، وبرهانها الوحيد الذي نستطيع أن نتعقله بلا تكلف ولا تعمل ولا فلسفة ولا حذلقة هو مجافاة السياسة الإنجليزية والانحراف عنها والتجهم لها وسلوك كل طريق غير طريقها، وما دمتم متفقين معها في اعتبار سعد باشا خصما سياسيا خطرا يجب هدمه وإسقاطه, فأنتم أعوانها وأنصارها ومحال أن تكونوا أعواننا وأنصارنا.
السياسة الإنجليزية تخنق الحرية السياسية في مصر, وتضرب على أيدي الكاتبين وألسنة الناطقين وعقول المفكرين، وتأبى إلا أن تسوق الناس جميعا في طريق السياسة التي ترضاها لنفسها، وسعد باشا يحتج كل يوم على ذلك ويصرخ الصرخات المزعجات التي ترتجف لها جوانب الأرض وتهتز لها أركان السماء، وأنتم سكوت صامتون، لا تحتجون ولا تغضبون، فهو الوطني المخلص من دونكم.
بيننا وبينكم أمر واحد إن أنتم فعلتموه نلتم ما شئتم من حبنا ورضانا وإكرامنا وإجلالنا، ونزلتم من نفوسنا المنزلة التي ينزلها الوطنيون المخلصون، هو أن تعقدوا اجتماعا عاما تكتبون فيه احتجاجا شديد اللهجة إلى الحكومة الإنجليزية على بقاء الأحكام العرفية في مصر حتى اليوم، وعلى القوانين الاستثنائية وقانون المطبوعات، وتقييد حرية الخطابة والكتابة، ومنع المظاهرات السلمية والاجتماعات السياسية، واعتبار الوطنية جريمة تعاقب عليها المحاكم العسكرية والنظامية، ثم تختمون احتجاجكم بهذه الكلمة: "إنا لا نقبل مفاوضة سياسية تجري بين فريقين؛ أحدهما سجين في سجن مظلم ضيق لا يستطيع التنفس فيه ولا الحركة، والآخر سجان قاسٍ مستبد يجرد على رأسه سيف القوة والقهر, ويملي عليه ما يريد ويشتهي".
هذا هو البرهان الوحيد الذي تستطيعون أن تقنعونا من طريقه بوطنيتكم وإخلاصكم لأمتكم ووطنكم، وأنكم قوم أحرار أباة متشبعون بروح العدل والشرف.
فإن لم تفعلوا فأذنوا لنا -ولنا العذر الواسع في ذلك- أن نعتبركم أعداءنا وأعداء حريتنا واستقلالنا، وأن نتمسك بالإخلاص للرجل الذي يذود عنا, ويجاهد في سبيلنا, ويحارب ظالمينا.
أتدرون متى نتخلى عن سعد باشا ونخذله ونرتاب في صدقه وإخلاصه؟ يوم ترضى عنه السياسة الإنجليزية، وتذود عنه الصحف الإنجليزية, وتثني عليه الدوائر الإنجليزية، وتدافع عنه القوة الإنجليزية، وتستحيل نفسه إلى نفس إنجليزية يحس بإحساسها ويشعر بشعورها، ويتحرك بحركتها، ويسكن بسكونها، ويوم تضمه الحكومة الإنجليزية إلى صدرها، وتحنو عليه حنو الوالدة المشفقة على طفلها الصغير، معتقدة أن حياتها في حياته، وموتها في موته، وما دام سعد باشا باقيا في صفوفنا لم يفارقنا ولم يتخل عنا، فمن الخبل والسفاهة وسقوط النفس أن نفارقه ونتخلى عنه، فإن عجز عن أن ينفعنا بشيء في قضيتنا فلا أقل من أن يشفي غليلنا بتنغيص ظالمينا، ولا شيء في العالم ألذ للنفوس ولا أشهى إليها من تنغيص الظالمين.
ليست الفضيحة أيها القوم أن يعلم أعضاء مجلس النواب الإنجليزي أن رجال الإدارة المصرية لا إرادة لهم أمام السلطة الإنجليزية وسيطرتها كما تقولون، فليس في العالم كله لا في إنجلترا ولا في غيرها من بلاد العالم من يجهل ذلك أو يستنكره، إنما الفضيحة الكبرى أن يعلم الناس عنا أن السياسة الإنجليزية قد استطاعت أن تضحك على ذقون فئة من عظماء المصريين ووجوههم، وتتخذ منهم عصا حديدية تضرب بها الوحدة المصرية وتمزقها، وأن جماعة من الذين كانوا يعبدون سعدا بالأمس ويقدسونه قد أصبحوا اليوم يشتمونه وينالون من كرامته لا لشيء سوى أنهم يدورون مع القوة حيث دارت، ويسيرون وراء المصلحة حيث سارت.
أنتم تعلمون أن اليد الإنجليزية الخفية هي التي تدير شئون مصر السياسية والإدارية والقضائية منذ أربعين عاما، وتقهر رجال حكومتها من وزرائها إلى خفرائها على تنفيذ أوامرها والخضوع لسياستها، ولم يطرأ حتى اليوم طارئ جديد يغير هذا النظام ويبدله، ولولا ذلك ما شكونا ولا تألمنا ولا نهضنا لطلب الحرية والاستقلال، بل ولا سافرت البعثة الرسمية في المهمة التي سافرت فيها، وتعلمون أن تلك اليد القاهرة هي التي تولت أمر اغتصاب الثقة بالوزارة الحاضرة, وقهرت رجال الإدارة على الاشتراك معها فيها تمهيدا للاتفاق المنتظر الذي تريد أن تلبسه صورة الرضا والاختيار من أساسه إلى ذروته، كما هو شأنها في سياستها دائما، وكما هي قاعدتها التي تجري عليها في جميع أعمالها. 
فدفاعكم عن رجال الإدارة في هذه المسألة إنما هو دفاع عن السياسة الإنجليزية نفسها وتبرئة لذمتها من سوء النية والقصد في إدارة الشئون المصرية ومساعدة لها على أن تجري في مسألة الانتخابات المقبلة للجمعية الوطنية على مثال الطريقة التي جرت عليها بالأمس في مسألة العمال المتطوعين، من حيث لا تعلق بها تهمة، ولا يتجه إليها لوم ولا عتاب، فأنتم لم تغضبوا لرجال الإدارة ولا لسمعة مصر والمصريين كما تزعمون، بل تخافون أن تفشل السياسة الإنجليزية في تنفيذ المعاهدة المنتظرة فتتخلى القوة عنكم فتصبحوا أمام الأمة وجها لوجه, وما أضمرتم بين جوانحكم من البغضاء لسعد باشا لأنه أهان رجال الإدارة أو جرح عواطفهم, بل لأنه الزعيم الوطني الوحيد الذي يستطيع أن يفسد كل سياسة خبيثة يراد بها اغتصاب رضا المصريين واستخذاؤهم لتلك الكارثة العظمى التي تسمونها استقلالا لا شك فيه، ونسميها حماية لا ريب فيها.
ماذا تنقمون من سعد باشا أيها القوم، وأي جناية جناها عليكم في أنفسكم أو في أمتكم فتحملوا له بين جوانحكم هذه الموجدة وهذا البغضاء؟!
ليس سعد باشا هو الذي اغتصب بلادكم واستأسر أوطانكم وأذل أعناقكم وأرغم أنوفكم وخنق الحرية السياسية في مجامعكم العامة, ومجالسكم الخاصة فما يستطيع أن ينطق ناطق, ولا أن يكتب كاتب إلا إيماء وتعريضا.
ليس سعد باشا هو الذي لعب بعقول فريق من أعضاء الوفد, وأغراهم بالانفصال عن الجامعة الوطنية والخروج عليها ليتوصل بذلك إلى تمزيق شمل الأمة وتفريق وحدتها، وليس هو الذي استثمر بدسائسه ومكائده طمع الطامعين وجبن الجبناء وغباوة الأغبياء ليستعين بهم على خراب وطنه, ودماره.
ليس سعد باشا خصمكم، بل خصومكم أولئك الذين يغرونكم به ويسلطونكم عليه؛ لأنهم يعلمون أن الأمة لا تفلح بغير زعيم، وأن لا زعيم فيها يعنى عناءه ويسد مكانه، فإن ظفروا به فقد ظفروا بالأمة جميعها وحلوا العقدة التي عجزوا عن حلها أربعين عاما، فحولوا سهامكم إلى خصومكم، ووجهوا ضرباتكم إلى المرقب الذي تتساقط منه السهام عليكم.
ارحموا أمتكم ولا تثيروا حفيظتها بإهانة زعيمها ونصيرها الباقي لها بعد تخلي جميع أنصارها وأعوانها عنها، ولا تنتهزوا فرصة ضعفها وعجزها فتدفعوها إلى إحدى السوءتين، إما الغضب الذي ليس من مصلحتها، وإما الذل الذي فوق طاقتها، واذكروا كيف يكون شأنكم غدا أمام أنفسكم وأمام ضمائركم إن تمت لأعدائكم الغاية التي يرومونها من مصر على أيديكم، لا قدر الله ولا سمح، بل كيف يكون بكاؤكم وعويلكم على وطنكم وبلادكم حينما تستيقظون من رقدتكم, وتستفيقون من سكرتكم, فتعلمون أن العدو قد اقتحم البلد وأنكم أنتم الذين فتحتم له أبوابه بأيديكم.














مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید