المنشورات

إلى أعدائنا:

1- نعم, إنكم أقوياء جدا، بل لا توجد قوة في العالم توازي قوتكم، ولكننا على ضعفنا وخلو أيدينا من السلاح والعدة أقوى منكم؛ لأنكم حاربتمونا بسلاح الخديعة والمكر الذي ألفتم أن تنتصروا به على الشعوب الشرقية قرونا عدة فانهزمتم أمامنا، واستطاع هذا الشعب الشرقي الصغير حديث العهد بالسياسة وأساليبها وألاعيبها ومناوراتها أن يدرك خبايا مقاصدكم ومراميكم، وأن يمزق عن وجوهكم ذلك الستر الكثيف الذي كان يجللها، وأن يقول لكم بصوته العالي المرتفع: لا أقبل الخدع والألاعيب، فإما الاستقلال تاما صريحا لا ريبة فيه، أو لا شيء.
إننا أقوى منكم لأنكم لم تستطيعوا أن تخدعونا عن أنفسنا، ولا أن تستنزلونا عن عقيدتنا ويقيننا، أما تلك القوة الميكانيكية التي تهرعون بها في شوارع البلاد وأزقتها، وتملئون بها وجه الأرض وجو السماء، فهي مما لا يفخر به الفاخر ولا يدل به المدل؛ لأنها شيء، والصفات النفسية والمزايا العقلية شيء آخر.
هل استطعتم بعد مقامكم بيننا أربعين عاما أن تصطنعوا رجلا واحدا من بين هذه الملايين الكثيرة, يحبكم ويخلص لكم؟
هل استطعتم بعد أن سقط ذلك البرقع الكثيف عن وجوهكم, وبدت للناس صفحتكم أن تجدوا ثمانية أشخاص يؤلفون لكم الوزارة التي تريدونها لتستعينوا بها على تنفيذ مشروعكم؟
هل تستطيعون أن تزعموا أنكم على ثقة تامة بإخلاص شخص واحد من هؤلاء الموظفين الكثيرين الذين قضى عليهم سوء حظهم أن يعملوا معكم، ويخضعوا لسلطتكم، حتى الذين غمرتموهم منهم بالنعم، وملأتم عليهم ديارهم رغدا وهناء؟
هل تستطيعون أن تبتاعوا بأموالكم الكثيرة التي لا حد لها قلما مصريا صميما يتولى نشر دعوتكم، وتأييد سياستكم، كما تفعلون في كل مكان حتى في أوروبا وأمريكا؟
إذن أنتم ضعفاء ونحن أقوياء، ولنا أن نفخر بهذه القوة التي نعتمد فيها على شرف أخلاقنا، وعزة نفوسنا، ومتانة عقيدتنا، وشدة إخلاصنا لوطننا، وليس لكم أن تفخروا بتلك القوة التي تعتمدون فيها على السيف والنار كما كان يفعل الهون في أوروبا والمغول في آسيا؛ لأنها أقرب إلى صفات الوحشية وغرائزها، منها إلى روح المدنية ومزاجها. 
نعم, إنكم اعتقلتم سعدا باشا، ولكن بعد أن صرع زعماءكم وقادتكم في ميدان السياسة، وأفسد عليكم تلك المؤامرة العظمى التي كانوا يريدون بها اعتقال مصر واستعبادها إلى الأبد، فقد صودر سعد باشا واعتقل، ولكن مصر قد نجت.
في استطاعتكم أن تصبغوا وجه مصر بالدماء، وأن تملئوا بطنها بالأشلاء، ولكن ليس في استطاعتكم أن تتقوا نظرات الاحتقار والازدراء التي نلقيها عليكم حين نراكم، ولا أن تطفئوا نار الحقد والموجدة التي تنبعث من ألسنتنا وصدورنا إلى وجوهكم، ولا أن تنالوا منالا من تلك العقيدة الراسخة في قلوبنا، وهي أنكم أضعف الضعفاء وإن كنتم أقوى الأقوياء، وأن هذه القوة التي تعتمدون عليها وتدلون بها ليست قوة السياسة ولا قوة الفكرة ولا قوة التدبير، وإنما هي قوة الشر والغضب.
اقتلونا ولكن بأيديكم لا بأيدينا، ألفوا الوزارة ولكن من رجالكم لا من رجالنا، املكوا علينا كل شيء إلا قلوبنا وأفئدتنا، احكمونا باسم الأحكام العرفية والأساليب العسكرية، لا باسم القوانين الشرعية والأحكام السماوية والأرضية، افتخروا بأنكم قمعتم الحركة المصرية وأنكم أخفتم الناس وأرهبتموهم، ولكن لا تفخروا بأنكم حللتم مشكلة مصر إلى الأبد. 
إنكم لا تحاربوننا من أجل احتلال البلاد فأنتم محتلوها، ولا من أجل الاستيلاء على مواردها وأرزاقها فهي جميعها تحت سلطتكم وسيطرتكم، ولا من أجل إطفاء الثورة وقمعها، فالأمة التي لا سلاح لها لا ثورة فيها، ولكنكم تحاربوننا من أجل إرغامنا على الاعتراف بمركزكم الشرعي في مصر، وما دمتم لم تصلوا إلى هذه الغاية بعد بذلكم ما وهبكم الله من دهاء سياسي وحيلة عقلية في هذا السبيل، فنحن المنتصرون وأنتم المنخذلون.












مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید