المنشورات

أعدائنا:

2- ماذا جنى الرجل عليكم فتنفوه إلى أقصى بقعة من بقاع الأرض, وما هو بثائر ولا محارب ولا عرف له الناس موقفا يدعو فيه بدعوة الجاهلية الأولى, أو ينطق فيه بكلمة الدم التي ينطق بها الثائرون في كل شعب وأمة ليستثيروا بها حفائظ النفوس, ويدفعوا بها الرجال إلى مواطن الموت؟!
أين هو الجيش الذي قاده لمحاربتكم، وأين هي الجموع التي سلحها وزحف بها عليكم، وأين هي الثورة التي أشعل نارها، أو الفتنة التي أحيا مواتها، فتعاقبوه هذا العقاب الشديد الذي اعتدتم أن تعاقبوا به زعماء الثورات وقواد المؤامرات؟! لا بل إنكم ما عاقبتم زعماء أعدائكم الذين رووا الأرض بدمائكم، وغطوا وجهها بأشلائكم، ونالوا منكم أشد ما ينال محارب من محاربه بمثل هذا العقاب المؤلم الشديد، وقد كنتم تزعمون ويزعم كثير من الناس لكم أنكم أمة العدل والقانون، وأن الشمس لا تطلع في مدار من مداراتها على محكمة مثل محكمتكم، وقضاة مثل قضاتكم، وميزان قسط وإنصاف مثل ميزان قسطكم وإنصافكم.
إن الرجل لم يكن جبانا ولا رعديدا، ولا من المغرقين في حب حياتهم أو الضانين بها على مواقف المجد والشرف، ولو شاء أن يشعل نار الثورة في كل مكان وأن يقود الرجال إلى موطن الموت لفعل، ولكنه لم يفعل ولا فكر في شيء من ذلك، لأنه من فريق الدعاة لا من فريق الثوار، ولأنه رجل عاقل حكيم لا يخطو الخطوة الواحدة حتى يقدر لها موضعها، وكانت لهجته الدائمة التي لا تفارقه في جميع مواقفه ومشاهده الدعوة إلى السكون والهدوء والعمل في دائرة القانون والنظام والمطالبة بالحقوق الوطنية بالطرق المشروعة السائغة، أي: إنه كان رجل حجة وبرهان لا رجل نزال وطعان، فلماذا لم تعرفوا له هذا الشعور الطيب الشريف الذي كانت تشتمل عليه سريرة نفسه؟ ولِمَ لم تحترموا فيه تلك العاطفة الطاهرة الكريمة التي كانت تتدفق بين جنبيه شرفا ونبلا، وتسيل رحمة وإحسانا؟
إنكم أقوياء جدا، وما نازعكم في ذلك منازع، وها هي جيوشكم وأساطيلكم وأسلحتكم ودباباتكم وطياراتكم تملأ البحار والقفار، السهول والجبال، والتهائم والنجود، والشوارع والأزقة، والأجواء والآفاق، فماذا عليكم لو أنكم تركتم الرجل في مكانه هادئا مطمئنا لا تهيجونه ولا تزعجونه، حتى إذا أثار عليكم الثائرة التي تخشونها لجأتم إلى قوتكم فقمعتموها كما تفعلون اليوم وقد قامت لكم الحجة عليه, واعتصمتم في أمره باليقين الذي تطمئن إليه نفوسكم، وتنقطع به حجج المؤاخذين لكم والناقمين عليكم، وإن كانت الأخرى كفيتم أنفسكم وكفيتمونا معكم هذا الشر المستطير بيننا وبينكم، وحقنتم تلك الدماء التي سالت في بطاح الأرض بلا جريرة, ولا سبب!
نؤكد لكم يا قوم أن الأمة المصرية لم تكن آلة في يد سعد باشا يصرفها كيف يشاء كما وهمتم, أو كما أوهمكم ذلك الضعفاء منا، وأن روح الوطنية المنتشرة فيها ليست روحا صناعية كاذبة يحييها وجوده ويميتها نفيه، وأن نفيه إلى أقصى بقعة من بقاع الأرض بل الذهاب به إلى مصير أعظم ويلا وهولا من هذا المصير لا يحل عقدة واحدة من عقد المسألة المصرية، ولا يغير وجها واحدا من وجوهها، ولا ينتقل بها خطوة من مكانها، أي: إنه لا يسمح للمستوزرين بتأليف الوزارة التي يريدونها، ولا براحتهم وهدوئهم فيها إن هم ألفوها، ولا يفسح لأولئك القوم الذين تسمونهم المعتدلين ونسميهم المساكين، مجالا أوسع من المجال الذي يضطربون فيه، ولا يفتح في جدار الوطنية ثغرة صغيرة تتمكن مكيدة المشروع الكرزوني أو الملنري من الانحدار منها، وأنكم لم تستفيدوا من كل ما عملتم شيئا سوى أنكم ظلمتم الرجل وبؤتم بإثمه، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
ماذا جنى سعد باشا عليكم سوى أنه كان يطالبكم بحقه وحق بلاده بالحجة والبرهان، ولا يوجد في تاريخ من تواريخ الأمم القديمة أو الحديثة قانون متمدين أو متوحش يعتبر هذا العمل جريمة يعاقب عليها صاحبها بإزعاجه من مأمنه, وإقصائه عن أرضه, ووضع ذلك السد المنيع بينه وبين جمال الحياة ورونقها.
لِمَ تنتزعونه من سرير نومه قبل أن تنبعث الطير من وكناتها, وتطيرون به إلى ذلك المنفى القصي البعيد الذي لا يعلم إلا الله ما يكون مصيره فيه, وما هو بقاتل ولا سارق ولا مختلس ولا داعٍ إلى ضلالة ولا قائم بفتنة ولا طالب شيئا سوى أن يعيش هو وقومه أحرارا كما تعيش الطيور في أجوائها, والسوائم في مراتعها, والأسماك في دأمائها؟
لِمَ لَمْ ترحموا شيخوخته ومرضه وأنه رجل أعزل ضعيف, لا يملك من القوى غير لسانه الذي يذود به عن وطنه وقومه؟ 
ومتى كانت الألسنة والأقلام جيوشا وجحافل تنازلها الجيوش والجحافل؟!
لم لم تحاجوه وتقنعوه بحقكم الذي تزعمونه لأنفسكم بدلا من أن تقولوا له: "إما السكوت وإما النفي"؟!
ما أغرب شأنكم أيها القوم وما أعجب تصوراتكم! أفيما بين يوم وليلة تنقلبون معنا من أصدقاء أوفياء تجالسوننا على منضدة واحدة لتفاوضونا على قاعدة الحرية والمساواة والود والإخاء إلى أعداء حاقدين واجدين تسفكون دماءنا وتمزقون أشلاءنا, وتشردون زعماءنا تحت كل نجم وكوكب وموقفنا موقفنا لم يتغير ولم يتبدل سوى أننا وقفنا لحظة أمام المشروع الذي قدمتموه إلينا ننعم النظر فيه, هل هو استقلال حقيقي كما تقولون أم شيء غير ذلك تسمونه استقلالا؟
نقسم لكم بالله لقد جعلتمونا نرتاب فيكم، وفي كل ما تطلع عليه شمسكم، وتفيء عليه ظلالكم، وفي الريح التي تهب من أرضكم، والماء الذي ينحدر من بحركم، بل وفي العلم الذي تشتمل عليه كتبكم، والمحور الذي تدور عليه مدنيتكم، ولقد مرت بنا أيام كنا لا نتمنى على الله فيها شيئا سوى أن نصل في المدنية إلى الذروة التي وصلتم إليها، فقد أصبحنا ولا أبغض إلينا من التشبه بكم، والتخلق بأخلاقكم، والسير على آثاركم، مخافة أن تصبح مدنيتنا في مستقبل أيامها مدنية وحشية, لا عهد فيها ولا ذمام.
سنأكل الشيح والقيصوم إن عز الطعام إلا من أيديكم، ونلبس الجلود والفراء إن أقفرت الأرض إلا من مصانعكم، ونشرب الملح الأجاج إن أبى العذب الزلال أن ينبع إلا في أرضكم، ونعيش في الظلمة الداجية إن أبت الشمس أن تشرق إلا من آفاقكم، وسنخلع عن أرضنا ثوب الخصوبة والجمال ونلبسها ثوب القحط والجدب لنقطع سبيل مطامعكم فيها، ونكدر عليكم صفاء العيش بين ظلالها وأمواهها، غير شاكين ولا متبرمين، فلا خير في نعمة يكدرها الذل، وبعدا لماء لا يشربه شاربه إلا ممزوجا بدم.
إن في السماء إلها، وإن في الأرض عدلا، وإن العناية الإلهية التي تضم إلى أجنحتها ضعف الضعيف وبؤس البائس ومظلمة المظلوم أرحم من أن لا تحفل بهذه الدموع التي تذرفها الأمة؛ حزنا على شيخها الشهيد المظلوم.
رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... غمامة هذا العارض المتألق













مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید