المنشورات

سعد باشا: في منفاه

في الساعة التي نزلتَ فيها إلى قاع السفينة "نوراليا" لتفارق هذا العالم كله إلى جزائر "سيشيل" صعد خصومك إلى كراسي مناصبهم فرحين متهللين يهنئ بعضهم بعضا، ويبسم بعضهم إلى بعض، ولا أعلم هل تلك الحمرة الخفيفة التي جالت في وجوههم في تلك الساعة كانت خالصة كلها للسرور والغبطة، أم كان يمازجها شيء للخجل والحياء، ولعلها كانت الثانية، فإني من لا يعتقد أن الضمير الإنساني إذا جمد ينتهي به جموده إلى الموت.
أنت سجين وهم مطلقون، أنت معذب وهم ناعمون، أنت مستوحش منفرد في قفرة جرداء لا أنيس لك فيها ولا سمير إلا بضعة أفراد مثلك مستوحشين منفردين, وهم مؤتنسون بالعيش في قصورهم وبساتينهم وملاعبهم ومسارحهم بين نسائهم وأولادهم وصحبهم وخلانهم، أنت مكتئب حزين يتقاسم قلبك همان؛ هم نفسك وهم قومك، وهم فرحون متهللون، يطفرون ويمرحون، ويطيرون بأجنحة سرورهم وحبورهم في كل جو وافق، لا يخالط نفسهم هم واحد.
ولكن هل أنت على ذلك شقي؟ وهل هم على ذلك سعداء؟
لا, لقد كان لهم أمنية؛ أن تغيب عنهم فيغيب عنهم اسمك وذكرك، وضوضاؤك وجلبتك، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فالنفوس ثائرة، والقلوب واجدة، والهتاف باسمك يملأ الآفاق والأجواء، والدعاء بثأرك يلاحقهم في كل مكان يسيرون فيه، وعيون الحقد والبغضاء تضرب حولهم نطاقا ناريا لا سبيل لهم إلى التفلت منه والخروج من دائرته، فأنت الحر الطليق، وهم الأسراء المسجونون، ولكنهم يتجلدون ويصابرون.
أنت تعيش من فضيلتك وشرفك، ومن رضاك عن نفسك واغتباطك بأداء واجبك، ومن راحة ضميرك واستقراره، وهدوء نفسك وسكونها، في أرحب من رقعة الأرض وأفسح من ديباجة السماء، وهم يعيشون من وخزات ضمائرهم، وقلق نفوسهم، ووساوس صدورهم، وخوفهم على تلك اللقيمات الملفوظات التي هي كل ما ظفروا به من حياتهم أن تهب عليها عاصفة من العواصف, فتطير بها وتطير بهم معها، ومن شبحك الهائل المخيف الذي لا يفارق مضاجعهم، ولا يبرح يقظتهم ومنامهم، ولا يزال يتمثل لهم في طعامهم الذي يطعمون، وشرابهم الذي يشربون، وفي جميع ما تمتد إليه عيونهم، وتتصل به أسماعهم، في أضيق من كفة الحابل, وأضنك من عيش السجين.
لا سجن في الدنيا غير سجن النفس، ولا حرية فيها غير حريتها، وليست سعادة المرء بمقدار ما يحيط بجسمه من الفضاء، بل بمقدار ما يحيط بنفسه منه.
فما سجنك الذي تعيش في جوه الموحش المكتئب, وبين جدرانه المتقاربة المتدانية بمانعك من أن تطير بنفسك العالية الخفاقة فيما تشاء من الآفاق والأجواء، وأن تتمتع برؤية هياكل مجدك وعظمتك المقامة لك على ضفاف النيل من طيبة إلى الإسكندرية، وأن تسمع دقات القلوب الخافقة بحبك، وأحاديث النفوس الهاتفة بذكرك.
وما فضاؤهم الرحب الفسيح الذي يحيط بهم بمجدٍ عليهم شيئا إذا حاولوا الحركة والاضطراب فيه؛ لأنهم يعلمون أنهم يعيشون في أمة قد وتروها وآسفوها، وغرسوا الحقد والبغضاء في صدورها، فهم على قوتهم وبأسهم، وعلى ضعفها وتجردها من كل سلاح وعدة، يخشونها ويخافونها، ولا يطيقون أن يحتملوا نظراتها النارية التي تلفح وجوههم، ولا صرخاتها الدموية التي تدوي في آذانهم، فهم دائما فارّون مطاردون كأنهم بعض المجرمين، لا عمل لهم في حياتهم سوى أن يسائلوا أنفسهم: أين يعيشون؟ وكيف يعيشون؟
إنهم لم يريدوا مطاردة جسمك بل نفسك، ونفسك باقية في مكانها لم تبرحه، ولم يعتقلوك من أجلك، بل من أجل القضاء على الروح الوطنية من بعدك، والروح الوطنية نامية زاهرة تضرب أعراقها في أعماق القلوب، وتهفو ذوائبها في آفاق السماء، ولم ينقموا عليك حياتك ولا وجودك، بل وقوفك في وجه متعتهم بمناصبهم التي هي كيان حياتهم وقوام أمرهم، والتي لا سبيل لهم إلى العيش إلا في ظلها، ولا الحياة إلا في دائرتها، ومناصبهم منغصة مهددة هي هامة اليوم أو غد.
فهم لم يفقدوا إلا وجهك، ولم ينالوا إلا من جسمك، ولم يحصلوا في أيديهم من كل ما عملوا إلا على إثم الجريمة وعارها.
آه يا سيدي لو تيسر لك أن تراهم لرأيت قوما معذبين متألمين, حائرين ذاهلين, لا يهنئون في نوم ولا يقظة، ولا يهدءون في سكون ولا حركة، قد ضاقت بهم الحيل، وتشعبت بهم السبل، وانتشرت عليهم الآراء والأفكار، لا يعلمون ماذا يأخذون وماذا يتركون، لا عمل لهم في حياتهم سوى أن يسائلوا أنفسهم ليلهم ونهارهم: ألا يستطيع هؤلاء الناس أن يرضوا منهم بدون عودتك، وعودتك موتهم الأحمر وشقاؤهم الأكبر؟
ينثرون الذهب على الناس نثرا ليتألفوهم ويستدنوهم, فيلتقطونه وهم يلعنونهم؛ لأنه مالهم قد أخذوه منهم ثم نثروه عليهم.
يوزعون الرتب والنياشين على الخاملين والمغمورين ليكونوا أعوانهم وأنصارهم بدل الأعوان والأنصار، فيمنحونهم من ألسنتهم ووجوههم ما لا يمنحونهم من قلوبهم وأفئدتهم؛ لأن الحب لا يشترى بالأسماء والألقاب.
يخلعون الوظائف الكبرى والمناصب الخطيرة على صغار الموظفين وأحداثهم ليخلبوهم ويبهروا عقولهم, فلا يصنعون لهم شيئا سوى أن يجاملوهم في مجالسهم ببعض ما يحبون، فإذا خرجوا من عندهم خرجوا هازئين بهم ساخرين.
يبتاعون أقلام فقراء الكتاب وضعفائهم ليكتبوا لهم ما يحط من شأنك ويرفع من شأنهم, فيفعلون كارهين متبرمين؛ لأن القلم لا يجد لذة المراح والجولان إلا في ميدان الصدق والاعتقاد. 
يصيحون في الناس بلهجة الخبثاء الماكرين: أبشروا أيها الناس, فقد جئناكم بالاستقلال الذي هو خير لكم من سعد, فيجيبونهم بهدوء وسكون: لو كان صحيحا ما تقولون, لكان سعد أول من يتمتع به لأنه صاحبه.
يحلفون لهم بالله جهد أيمانهم أنهم لا يريدون بهم إلا خيرا, ولا يضمرون لهم إلا ما يحبون فيقولون لهم: ولماذا إذن نفيتم سعدا؟
يحاولون بكل ما يعرفون من الوسائل أن يفصلوا بين قضيتك وقضية مصر, فكأنما يحاولون الفصل بين الشمس وشعاعها, والنار وحرارتها، والمقدمة ونتيجتها.
يصخبون أخيرا ويحتدمون ويقولون: إن التشبث بعودة سعد مسألة شخصية، فتتجاوب الأصداء من كل ناحية: هبوا أن الأمر كما تقولون، وهل تشبثكم بمناصبكم وعضكم عليها بالنواجذ ومخاطرتكم بكل شيء في سبيلها مسألة غير شخصية؟!
فأنت يا مولاي قذى عيونهم، وغصة حياتهم، وشغل قلوبهم وأفئدتهم، والحجة القائمة عليهم أحسنوا أم أساءوا، أعطوا أم منعوا، نفعوا أم أضروا.
ولقد تحدثهم نفوسهم أحيانا بالتخلي عن تلك المناصب الشقية وتوديعها إلى الأبد سآمة وضجرا، وضيقا وحصرا، ولكن يحول بينهم وبين ذلك علمهم أن الأوان قد فات، وأن الأمة لا تغفر لهم ذنوبهم، ولا تقيل لهم عثراتهم، وأنهم لا يستطيعون أن يجدوا في فضاء الأرض ذات الطول والعرض ظل حصاة يلجئون إليه من نقمة الأمة وغضبها، فلا يجدون لهم بدا من أن يستمروا قابعين وراء تلك الأكمة التي تحميهم وتذود عنهم، وربما كانوا يبكون وراءها دما.
فمثلهم كمثل الفارة من بيت أبيها إلى بيت خليلها، يلحقها الندم، وتضيق بها ساحة العيش، فتود لو رجعت إلى بيتها الأول، ولكنها لا تستطيع.
وكأنهم بحماتهم وقد ملوهم وسئموهم، وضجروا بمكانهم؛ لأنهم ما منحوهم هذه المناصب حبا وإيثارا، أو منة وفضلا، بل ليمهدوا لهم السبيل إلى ذلك الاتفاق الذي يريدونه، ويقوموا لهم بوظيفة تحويل شعور الأمة إلى سياستهم، واقتيادها إلى حظيرتهم، من طريق الكيد والدهاء، لا من طريق القوة والعنف، وقد عجزوا عن ذلك، فلم يبق لهم سبيل إلى البقاء.
وكذلك ينتقم الله لك منهم يا مولاي انتقاما تهتز له أقطار الأرض، وتضطرب له أكناف السماء، وكذلك يسجل لهم التاريخ في صفحاته من العار والشنار ما سجل لأمثالهم من الخارجين المارقين.
مولاي!
لا الشمس الطالعة من مشرقها صفراء كالذهب تنشر الأضواء في الآفاق, وتعابث بأشعتها اللامعة المتلألئة ذوائب الأشجار وقمم الجبال ورءوس الهضاب, وتبعث الأزهار من أكمامها والطيور من أوكارها.
ولا البدر السائر في سمائه بعظمته وجلاله بين حاشية من كواكبه ونجومه، يمسح بليقته الفضية جبين السماء، ويمزق حجب الظلام عن وجه الغبراء.
ولا الربيع المقبل في أثواب زهوره ورياحينه، ومطارف غدرانه وجداوله، يوشي بساط الأرض بأبدع الألوان وأبهاها، ويملأ الفضاء الرحب بأطيب الروائح وأعبقها.
ولا الطيور الصادحة على أفنانها توقع نغماتها على خرير الماء, وتترجم في توقيعها عن شجو النفوس وحنينها، وخفقان القلوب وأنينها.
ولا أحلام الحياة اللذيذة المنبعثة في النفوس انبعاث الراح في الأجسام، تحيي مواتها، وتثتثير نشوتها، وتهز أعطافها، وتذيقها حلاوة المنى, ولذة الأمل.
ولا الدنيا وجمالها، ولا الأرض وبهجتها، ولا السماء وزينتها، ولا البحار وروعتها، ولا المروج وخضرتها، ولا الأزهار ونضرتها، بقادرة على أن تنسينا أيامك الغر البواسم التي كانت غرر الدهر وحجوله، وزينة الدنيا وبهجتها، ولا بمستطيعة أن تنزع من بين قلوبنا مرارة الحسرة على فراقك، واللهف إلى لقائك، فمتى يجمع الله بيننا وبينك!
لا أوحشت دارك من شمسها ... ولا خلا غابك من أسده











مصادر و المراجع :      

١- النظرات

المؤلف: مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)

الناشر: دار الآفاق الجديدة

الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید