المنشورات

تصدير: بقلم: محمد سعيد العريان

" ... ربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك، وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك، وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك".
الرافعي
هذا كتاب، آخر كتاب أنشأه الرافعي، ففيه النفحة الأخيرة من أنفاسه، والنبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وجدانه ... أفرأيت الليل المطبق كيف تتروَّح نسماته الأخيرة بعبير الشجر وتتندَّى أزهاره في نسيم السحر؟
ألا وإنه إلى ذلك أول كتاب أنشأه على أسلوبه وطريقته، فقد عاش الرافعي ما عاش يكتب لنفسه وينشر لنفسه، لا يعنيه مما يكتب وينشر إلا أن يُحيل فكرة في رأسه أو لمحة في خاطره أو خفقة في قلبه, إلى تعبير في لسانه أو معنى في ديوانه، ولا عليه بعد ذلك أن يتأدى معناه إلى قارئه كما أراده أو يُغلق دونه، فلما اتصل سببه بمجلة "الرسالة"* رأى لقارئه عليه حقًّا أكثر من حق نفسه، فكان أسلوبه الجديد الذي أنشأ به الكتاب.
على أن هذا الكتاب -وشأنه ما قدمت- يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح، فمن شاء فليقرَأه دون سائر كتبه، فسينكشف له الرافعي في سائر كتبه. والأديب الحق تستعلن نفسه بطريقتها الخاصة في كل زمان ومكان على اختلاف أحواله وما يحيط به.
والرافعي عند طائفة من قراء العربية أديب عَسِر الهضم، وهو عند كثير من هذه الطائفة متكلف لا يصدر عن طبع، وعند بعضهم غامض معمًّى لا تخلص إليه النفس، ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب وذوي الذوق البياني الخالص، أديب الأمة العربية المسلمة، يعبر بلسانها، وينطق عن ذات نفسها، فما يعيب عليه عائب إلا من نقص في وسائله، أو كدرة في طبعه، أو لأن بينه وبين طبيعة النفس العربية المسلمة التي ينطق الرافعي بلسانها حجابًا يباعد بينه وبين ما يقرأ روحًا ومعنًى.
فمن شاء أن يقرأ ما كتب الرافعي ليتذوق أدبه فيأخذ عنه أو يحكم عليه، فليستوثق من نفسه قبلُ، ويستكمل وسائله، فإن اجتمعت له أداته من اللغة والذوق البياني، وأحس إحساس النفس العربية المسلمة فيما تحب وما تكره وما يخطر في أمانيها؛ فذوقه ذوق وحكمه حكم، وإلا فليُسقط الرافعي من عداد من يقرأ لهم, أو فليسقط نفسه من عداد هذه الأمة.
على أنه إذا حق لنا أن نرتب كتب الرافعي ترتيبًا يعين قارئه على تذوقه أو دراسة أدبه فإن "وحي القلم" في رأس هذا الثبت, هو آخر ما أنشأ ولكنه أول ما ينبغي أن يقرأ له، وإن البدء به لحقيق أن يعوِّد قارئه أسلوب الرافعي فيسلس له صعبه وينقاد.
ذلك مجمل الرأي في أسلوب هذا الكتاب، على أن قارئه قد يقف منه عند مواضع فليسأل نفسه: كيف تأتَّى للرافعي أن يعالج موضوعه على هذا الوجه؟ وكيف تهيأ له ذلك المعنى؟ وأين ومتى اجتمعت له هذه الخواطر؟ وفي أي أحواله كان يكتب؟ وعلى أي نسق كان يؤلف موضوعه ويجمع أشتاته ويحشد خواطره ويصنف عبارته؟
... ولست أرى من حقي أن أطيل القول هنا في هذا الكتاب وقد ذكرتُهُ في كتاب "حياة الرافعي"، وإن موضوع هذا الكتاب لهو الحقيق بالدرس والعناية.
والكتاب كما يشعر به عنوانه، هو مجموعة فصول ومقالات وقصص، من وحي القلم وفيض الخاطر في ظروف متباينة، وأكثره ما كتبه لمجلة الرسالة بين سنتي 1934 و1937، ولكل فصل أو مقالة أو قصة من هذه المجموعة سبب أوحى إليه موضوعها وأملى عليه القول فيها، ولقد كان عليَّ أن أثبت عند رأس كل موضوع منها باعثه وحادثته، لعل من ذلك نورًا يكشف عن معنى مغلق أو يوضح فكرة يكتنفها بعض الغموض، ولكن بعض الضرورات قد ألزمتني أن أقتصد في البيان هنا اكتفاءً بما بينته في موضعه, وأشرت إليه في هامش موضوعه.
ولقد يقرأ القارئ بعض القصص في هذا الكتاب، فيسأل عن بعضها: أهذا حق يرويه أم باطل يدعيه؟ ويسأل عند بعضها: أهذا مما ينقل من مأثورات الأدب والتاريخ القديم، أم إنشاء مما يبدعه الخيال وتوشيه الصنعة؟ ثم يقرأ رأي الرافعي في القصة وكتاب القصة* فيقول: أين رأيه من حقيقته؟ وأين عمله من دعواه؟
ولهذه القصص حديث طويل، ولكن حسبي أن أقول: إن الرافعي -وإن هجر القصة ولم يحفل بها زمانًا- كانت القصة في أدبه, وفي طبعه.
وكما قلت من قبل: إن هذا الكتاب يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح في أسلوبه، كذلك أقول هنا: إنه يجمع كل خصائصه العقلية والنفسية متميزة بوضوح في موضوعه، ففيه خلقه ودينه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه تزمته ووقاره، وفيه فكاهته ومرحه، وفيه غضبه وسخطه، فمن شاء أن يعرف الرافعي عرفان الرأي والفكرة والمعاشرة فليعرفه في هذا الكتاب.
أما الجزء الثالث من هذا الكتاب فقد خلفه المؤلف -رحمه الله- على مكتبه قصاصات من صحف وصفحات من كتب ومجلات، فعاد كتابًا بين دفتين، وقد رتبت فصوله على ما بدا لي، إذ لم أجد فيما خلّف المؤلف من أوراق ما يشير إلى رأيه في ترتيبه، ولكن جمع أكثر مواده في غلاف وأودعه درج مكتبه إلى ميعاد، ثم عاجلته منيته. وقد جمعتُ ما قدرت عليه بعد، فأضفتُه إلى ما جمع المؤلف، ورتبت كل ذلك وهيأته للمطبعة فإن كان قد فاتني شيء مما ينبغي إضافته إلى ذلك الجزء, أو قصر بي الجهد عن ترتيبه على الوجه الأمثل، فمعذرة إلى قارئه.
وللمؤلف في ذيل بعض الصحائف تعليقات، ولي تعليقات غيرها اقتضاها مكانها وموضوعها، فإذا رأى القارئ رمز التعليق في الصلب وفي الهامش نجمًا أو نجومًا "*" "* *" فهو ما علقتُهُ، وإن كان الرمز رقمًا فهو مما علقه المؤلف -رحمه الله- لبيان معنى أو تفسير كلمة.
وإن في الكتاب لفنًّا وفكرًا وبيانًا، وإن فيه لمواضع تقتضي البسط والتطويل في الحديث، وإن فيه لمذاهب في الإنشاء حقيقة بالدرس والنظر، ولكني أجتزئ من ذلك كله بالعرض دون البيان؛ لأدع لقارئه أن يقول ما يشاء ويحكم، ثم لأفسح المكان لمنشئ الكتاب أن يتحدث عن مذهبه في البيان وهو عليه أقدر.
محمد سعيد العريان 
إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي هي التي تميز طريقته وأسلوبه؛ وكما خُلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه1.
ولا بد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حُدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبس الملائكة بهذا اللحم والدم أبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة، للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن أو يتسنى من طريقة تعريفها للإنسانية.
وأي بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب، إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنَضِّرها حسنًا كما ينضره.
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى -كالإيمان, والجمال، والحب، والخير, والحق- ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة.
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنًّا عقليًّا غايته صحة الأداء وسلامة النسق، فيكون البيان في كلامهم على ندرة كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا. ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائدًا جمال الصورة. أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويَدِفّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري. ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين وكأنه يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ؛ وترى الإلهام في الأسلوب الآخر يطالعك أنه هنا في جلال وجمال, وفي صور وألوان.
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي، كأنها شبّت في نفسه شبابًا؛ وأقوى مما هي، كأنما كسبت من روحه قوة؛ وأدل مما هي، كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي.
وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تام تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة، وهو لذلك وبذلك، يُرَى ويؤثّر ويعشَق.
وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك.
إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب.
مصطفى صادق الرافعي













مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید