المنشورات

بنته الصغيرة

فرغ أبو يحيى مالك بن دينار، زاهد البصرة وعالمها، من كتابة المصحف؛ وكان يكتب المصاحف للناس، ويعيش مما يأخذ من أجرة كتابته؛ تعففًا أن يطعم إلا من كسب يده, ثم خرج من داره وجهه المسجد، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائمًا، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافلته، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى أُسْطُوانته1 التي يستند إليها، وتحلَّق الناس حوله جموعًا خلف جموع خلف جموع، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجد على رحبه. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقة طويلة، والناس كأن عليهم الطير مما سكنوا لهيبته، ومما عجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندَّت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطَّلع على أرواحهم فجر رطب من سحر ذلك الندى.
وبدر شاب حَدَث فسأله: ما بكاء الشيخ؟ وكان قريبًا يجلس من الإمام في سَمْت بصره2 فتأمله الشيخ طويلًا يقلب فيه الطرْف كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِد لسانه أو أخذته من نفسه حال، فما يثبت شيئًا مما يرى.
وازداد الناس عجبًا؛ فما جربوا على الشيخ من قبلها حصرًا ولا عِيًّا، ولا قطعه سؤال قط، ولا تخلف عن جواب؛ وقالوا: إن له لشأنًا، وما بد أن تكون من وراء حُبْسَته شعاب في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج؛ فما أسرع ما يلتقي السيل، فيجتمع، فيصوب إلى مجراه، فيتقاذف.
وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيت رؤيا فتبسمت لها؛ أما الذكرى، فهل تعلمون أن هذا المسجد الذي يَفْهَق بهذا الحشد العظيم، وتقع فيه المدينة لكل أذان وتطير, هل تعلمون أنه خلا قَطّ من الناس وقد وجبت الفريضة؟ قالوا: ما نعلمه.
قال: فقد كان ذلك لعشرين سنة خلت في موت الحسن1، فقد مات عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهل البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقَمْ صلاة العصر بهذا المسجد، وما تُرِكَتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعة موته من عمر من شهدها، فذلك يوم عجيب قد لف نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيت في نفس رجل ولا امرأة شهوة إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطله، كما يفرغ من أيقن أن ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموت في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناء في موت آبائهم وأمهاتهم، ولا الآباء والأمهات في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيز على أهل بيت فيكون الموت واحدًا وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موت الحسن موتًا بعدد أهل البصرة!
ذاك يوم امتد فيه الموت وكبر، وانكمشت فيه الحياة وصغرت، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يلقى فيها الملوك والصعاليك والأخلاط بين هؤلاء وأولئك، لا يصغر عنها الصغير، ولا يكبر عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك، حتى رجعت الدنيا على قدر جِيفة حيوان بالعَرَاء، تنكشف للأبصار عن شَوْهاء نجسة قد أَرَمَّت2 لا تطاق على النظر، ولا على الشم، ولا على اللمس؛ وما تتفجّر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض.
تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى، فأبصرتُني حين كنت مثله يافعًا مترعرعًا داخلًا في عصر شبابي، فكأنما انتبهت عيني من هذه النفس على فاتك خبيث كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلًا ثم بُعث!
إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فأرعوه أسماعكم، وأحضروه أفهامكم، واستجمعوا له، فإنه كان غَيْب شيخكم، وأنا محدثكم به كيلا ييأس ضعيف، ولا يقنَط يائس، فإن رحمة الله قريب من المحسنين.
لقد كنت في صدر أيامي شرطيًّا، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتّى وأتشطّر، وكنت قويًّا معصوبًا في مثل جِبْلة الجبل من غلظ وشدة، وكنت قاسيًا كأن في أضلاعي جَندلة لا قلبًا، فلا أتذمم ولا أتأثم؛ وكنت مدمنًا على الخمر؛ لأنها روحانية من عَجَز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهية يزوّرها الشيطان -لعنه الله- فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويثيبها ثواب ساعة ليست في الزمن بل في خيال شاربها. وكأن جهل العقل نفسه في بعض ساعات الحياة، هو -في علم الشيطان وتعليمه- معرفة العقل نفسه في الحياة!
فبينا أنا ذات يوم أجول في السوق، والناس يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أرقب السارق، وأعد للجاني، وأتهيأ للنزاع, إذ رأيت اثنين يتلاحيان، وقد لَبَّب أحدهما الآخر، فأخذت إليهما، فسمعت المظلوم يقول للظالم: لقد سلبتني فرح بُنَيَّاتي، فسيدعون الله عليك فلا تصيب من بعدها خيرًا، فإني ما خرجت إلا اتباعًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خرج إلى سوق من أسواق المسلمين، فاشترى شيئًا، فحمله إلى بيته، فخص به الإناث دون الذكور؛ نظر الله إليه".
قال الشيخ: وكنت عزبًا لا زوجة لي، ولكن الآدمية انتبهت في، وطمعت في دعوة صالحة من البُنَيَّات المسكينات، إذا أنا فرحتهن؛ ودخلتني لهن رقة شديدة, فأخذتُ للرجل من غريمه حتى رضي، وأضعفت له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته, وقلت له وهو ينصرف: عهدٌ يحاسبك الله عليه، ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيت فرحهن بما تحمل إليهن، وقل لهن: مالك بن دينار.
وبتُّ ليلتي أتقلب مفكرًا في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعانيه الكثيرة، وحثه على إكرام البنات، وأن من أكرم بناته كرُم على الله، وحرصه أن ينشأن كريمات فرحات؛ وحدثني هذا الحديث ليلتي تلك إلى الصبح، وفكرت حينئذ في الزواج، وعلمت أن الناس لا يزوجونني من طيباتهم ما دمت من الخبيثين؛ فلما أصبحت غدوت إلى سوق الجواري، فاشتريت جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، وولدت لي بنتًا فشُغفتُ بها، وظهرتْ لي فيها الإنسانية الكبيرة التي ليست في، فرأيت بُعد ما بيني وبين صورتي الأولى، ورأيتها سماوية لا تملك شيئًا وتملك أباها وأمها، وليس لها من الدنيا إلا شِبَع بطنها وما أيسره، ثم لها بعد ذلك سرور نفسها كاملًا تشُب عليه أكثر مما تشب على الرضاع؛ فعلمت من ذلك أن الذي تكتنفه رحمة الله يملك بها دنيا نفسه، فما عليه بعد ذلك أن تفوته دنيا غيره؛ وأن الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه وتكون نفسه دائمًا جديدة على الدنيا؛ وأن الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة؛ والذي لا يبالي الهم لا يبالي الهم به؛ وأن زينة الدنيا ومتاعها وغرورها وما تجلب من الهم, كل ذلك من صغر العقل في الإيمان حين يكبر العقل في العلم!
كانت البنية بدء حياة في بيتي وبدء حياة في نفسي، فلما دبت على الأرض ازددت لها حبًّا، وألفتني وألفتها، فرُزقت روحي منها أطهر صداقة في صديق، تتجدد للقلب كل يوم، بل كل ساعة، ولا تكون إلا لمحض سرور القلب دون مطامعه، فتمده بالحياة نفسها لا بأشياء الحياة، فلا تزيد الأشياء في المحبة ولا تنقص منها، على خلاف ما يكون في الأصدقاء بعضهم من بعض واختلافهم على المضرة والمنفعة.
قال الشيخ: وجهدتُ أن أترك الخمر فلم يأت لي ولم أستطعه؛ إذ كنت منهمكًا على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته فيها الشريعة، فكرهتها كرهًا شديدًا، وأصبحت كالمكره عليها، ولم تعد فيها نشوتها ولا رِيّها، وكانت الصغيرة في تمزيق أخيلتها أبرع من الشيطان في هذه الأخيلة، وكأنما جرتني يدها جرًّا حتى أبعدتني عن المنزلة الخمرية التي كان الشيطان وضعني فيها، فانتقلت من الاستهتار والمكابرة وعدم المبالاة إلى الندم والتحوب والتأثم، وكنت من بعدها كلما وضعت المسكر، وهممت به دَبَّت ابنتي إلى مجلسي؛ فأنظر إليها وتنتشر عليها نفسي من رقة ورحمة، فأرقُب ما تصنع، فتجيء فتجاذبني الكأس حتى تهرقها على ثوبي، وأراني لا أغضب، إذ كان هذا يَسُرها ويضحكها، فأسرّ لها وأضحك.
ودام هذا مني ومنها، فأصبحت في المنزلة بين المنزلتين؛ أشرب مرة وأترك مرارًا، وجعلت أستقيم على ذلك، إذ كانت النشوة بابنتي أكبر من النشوة بالزجاجة، وإذ كنت كلما رجعت إلى نفسي وتدبرت أمري، أستعيذ بالله أن تعقل ابنتي معنى الخمر يومًا, فأكون قد نَجَّستُ أيامها، ثم أتقدم إلى الله وعلي ذنوبها فوق ذنوبي، ويترحم الناس على آبائهم وتلعنني إذ لم أكن لها كالآباء، فأكون قد وُجدتُ في الدنيا مرة واحدة وهلكت مرتين.
ومضيت على ذلك وأنا أصلح بها شيئا فشيئا وكلما كبرت كبرت فضليتي، فلما تم لها سنتان، ماتت!
قال الراوي: وسكت الشيخ، فعلقتْ به الأبصار، ووقفت أنفاس الناس على شفاههم، وكأنما ماتت لحظات من الزمن لذكر موت الطفلة، وخامر المجلس مثل السكر بهذه الكأس المذهلة؛ ولكن الطفلة دبت من عالم الغيب كما كانت تصنع، وجذبت الكأس وأهرقتها، فانتبه الناس وصاحوا: ماتت فكان ماذا؟
قال الشيخ: فأكمدني الحزن عليها، ووهن جأشي، ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسى به، فضاعف الجهل أحزاني، وجعل مصيبتي مصائب. والإيمان وحده هو أكبر علوم الحياة، يبصّرك إن عميت في الحادثة، ويهديك إن ضللت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكون وإياها على المصيبة، لا عدوها تكون المصيبة وإياها عليك، وإذا أخرجت الليالي من الأحزان والهموم عسكر ظلامها لقتال نفس أو محاصرتها، فما يدفع المال ولا ترد القوة ولا يمنع السلطان، ولا يكون شيء حينئذ أضعف من قوة القوي، ولا أضيع من حيلة المحتال، ولا أفقر من غنى الغني، ولا أجهل من علم العالم، ويبقى الجهد والحيلة والقوة والعلم والغنى والسلطان للإيمان وحده؛ فهو يكسر الحادث ويقلل من شأنه، ويؤيد النفس ويضاعف من قوتها، ويرد قدر الله إلى حكمة الله؛ فلا يلبث ما جاء أن يرجع، وتعود النفس من الرضا بالقدر والإيمان به، كأنما تشهد ما يقع أمامها لا ما يقع فيها.
قال الشيخ: ورجعتُ بجهلي إلى شر مما كنت فيه، وكانت أحزاني أفراح الشيطان؛ وأراد -أخزاه الله- أن يفتَنَّ في أساليب فرحه، فلما كانت ليلة النصف من شعبان -وكانت ليلة جمعة، وكانت كأول نور الفجر من أنوار رمضان- سوَّل لي الشيطان أن أسكر سكْرة ما مثلها؛ فبت كالميت مما ثمِلت، وقذفتني أحلام إلى أحلام, ثم رأيت القيامة والحشر, وقد ولدت القبور من فيها, وسيق الناس وأنا معهم، وليس وراء ما بي من الكرب غاية؛ وسمعت خلفي زفيرًا كفحيح الأفعى، فالتفتُّ فإذا بتنين عظيم ما يكون أعظم منه؛ طويل كالنخلة السَّحُوق، أسود أزرق، يرسل الموت من عينيه الحمراوين كالدم، وفي فمه مثل الرماح من أنيابه، ولجوفه حر شديد لو زفر به على الأرض ما نبتت في الأرض خضراء، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعًا يريد أن يلتقمني، فمررت بين يديه هاربًا فزعًا؛ فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفًا، فعذت به وقلت: أجرني وأغثني. فقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن مر وأسرع، فلعل الله أن يسبب لك أسبابًا بالنجاة.
فوليت هاربًا وأشرفت على النار وهي الهول الأكبر، فرجعت أشتد هربًا والتنين على أثري؛ ولقيت ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرت به فبكى من الرحمة لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يحدث أمرًا.
فنظرتُ فإذا جبل كالدار العظيمة، له كُوًى عليها سُتُور، وهو يبرق كشعاع الجوهر؛ فأسرعت إليه والتنين من ورائي، فلما شارفت الجبل فُتحت الكوى, ورُفعت الستور، وأشرفت علي وجوه أطفال كالأقمار، وقرب التنين مني، وصرت في هواء جوفه وهو يتضرم علي، ولم يبق إلا أن يأخذني؛ فتصايح الأطفال جميعًا: يا فاطمة! يا فاطمة!
قال الشيخ: فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت علي، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكت، ثم وثبت كرمية السهم، فجاءت بين يدي، ومدت إلي شمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هاربًا، وأجلستني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبت ... {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] .
فبكيت وقلت: يا بنية، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي. قالت: ذاك عملك السوء الخبيث، أنت قوَّيته حتى بلغ هذا الهول الهائل، والأعمال ترجع أجسامًا كما رأيت. قلت: فذاكالشيخ الضعيف الذي استجرت به ولم يجرني؟ قالت: يا أبت، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفته فضعُف حتى لم يكن له طاقة أن يغيثك من عملك السيئ؛ ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن اتبعت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن فَرّح بناته المسكينات الضعيفات؛ لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها، ويمين تطرد عنك.
قال الشيخ: وانتبهت من نومي فزعًا ألعن ما أنا فيه، ولا أراني أستقر، كأني طريدة عملي السيئ؛ كلما هربت منه هربت به؛ وأين المهرب من الندم الذي كان نائمًا في القلب واستيقظ للقلب؟
وأمَّلت في رحمة الله أن أربح من رأس مال خاسر، وقلت في نفسي: إن يومًا باقيًا من العمر هو للمؤمن عمر ما ينبغي أن يستهان به؛ وصححت النية على التوبة, لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمّن عظامه، حتى إذا استجرت به أجارني ولم يقل: "أنا ضعيف كما ترى! ".
وسألت فدُللت على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيد البقية من التابعين؛ وقيل لي: إنه جمع كل علم وفن إلى الزهد والورع والعبادة، وإن لسانه السحر، وإن شخصه المغناطيس، وإنه ينطق بالحكمة كأن في صدره إنجيلًا لم يُنزَّل، وإن أمه كانت مولاة لأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت ربما غابت أمه في حاجة فيبكي، "فترضعه أم سلمة تعلله بثديها فيدر غلته، فكانت بينه وبين بركة النبوة صلة".
وغدوتُ إلى المسجد والحسن في حلقته يقص ويتكلم، فجلست حيث انتهى بي المجلس، وما كان غير بعيد حتى عرتني نَفْضة كنفضة الحمى، إذ قرأ الشيخ هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] ؛ فلو لفظتني الأرض من بطنها، وانشق عني القبر بعد الموت ما رأيت الدنيا أعجب مما طالعتني في تلك الساعة؛ وأخذ الشيخ يفسر الآية، فصنع بي كلامه ما لو بُعث نبي من أجلي خاصة لما صنع أكثر منه.
وكلام الحسن غير كلام الناس، وغير كلام العلماء؛ فإنه يتكلم من قلبه ومن روحه ومن وجهه ولسانه، وناهيكم من رجل خاشع متصدع من خشية الله، لم يكن يرى مقبلًا إلا وكأنه أسير أمروا بضرب عنقه، وإذا ذُكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له وحده؛ رجل كان في الحياة لتتكلم الحياة بلسانه أصدق كلماتها.
فصاح صائح: يا أبا يحيى، التفسير! وصاح المؤذن: الله أكبر, فقطع الشيخ وقال: التفسير إن شاء الله في المجلس الآتي.
بنته الصغيرة "2":
... وجاء من الغد أبو يحيى مالك بن دينار إلى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول إلى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا إلى بقية خبره في لهفة كأن لها عمرًا طويلًا في قلوبهم، لا ظمأ ليلة واحدة.
وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جعلت فداك، ما كان تأويل الحسن لتلك الآية من كلام الله تعالى؟ وكيف رجع الكلام في نفسك مرجع الفكر تتبعه، وأصبح الفكر عندك عملًا تحذو عليه، واتصل هذا العمل فكان ما أنت في ورعك و ... ؟
فقطع الإمام عليه وقال: هوِّن عليك يا هذا؛ إن شيخك لأهون من أن تذهب في وصفه يمينًا أو شمالًا، وقد روى لنا الحسن يومًا ذلك الخبر الوارد فيمن يُعذب في النار ألف عام من أعوام القيامة، ثم يدركه عفو الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال: "يا ليتني كنت ذلك الرجل! " وهو الحسن يا بني، هو الحسن....!
فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى قتلتنا يأسًا. وقال الأول: إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس والقنوط، فلا ينفعنا عمل، ولا نأتي عملًا ينفع.
قال الشيخ: هونوا عليكم، فإن للمؤمن ظنين: ظنا بنفسه، وظنا بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزل بها دون جَمَحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فإذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئًا أوجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائمًا يدفعها؛ وكلما أكثرت من الخير قال لها: أكثري. وكلما أقلت من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبه ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق الفترات والعلل والآثام، ولا يزال يعلو؛ فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرًا فله وإن شرًّا فله. ولقد روينا هذا الخبر: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ قال: لا! فقتله فكمل به مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم؛ ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناسًا يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.
فانطلق، حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكمًا بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة! ".
قال الشيخ: فهذا رجل لما مشى بقلبه إلى الله حسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظام المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحد لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حفرة.
والإنسان عند الناس بهيئة وجهه وحليته التي تبدو عليه، ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة1 مما تحتها. فيا لها سخرية أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن ثم تبعد في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني؟
إن هذه الأخلاق الفاضلة في هذا الإنسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] .
فالأخلاق الفاضلة محدودة بالله والحق معًا، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فإن من القلب مخارج الحياة النفسية كلها.
قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويل هذه الآية، واستننت بها، مضيت أعيش من الدنيا في تاريخه قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركت من يومئذ أن ليس حفظ القرآن حفظه في العقل، بل حفظه في العمل به؛ فإن أنت أثبت الآية منه، وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها، فهذا -ويحك- نسيانها لا حفظها. وقد كان قومنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها ورقها الأخضر وزهرها، وعلى ظاهرها حياة باطنها، فلما ثبت الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلب وأحواله، أصبحوا كالشجرة اليابسة، عليها ورقها الجافّ، ليس في بقائه ولا سقوطه طائل.
ما أصبحت ولا أمسيت منذ حفظت تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي التي دلتني بمعانيها أن ليست الحياة الأرضية شيئًا إلا ثورة الحي على ظلم نفسه، يستكف عنها أكثر مما يستجر لها، والناس من شقائهم على العكس، يستجرون أكثر مما يستكفون، وإنما السعيد من وجد كلمات روحانية إلهية يعش قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسن ما يعمل، ومن ثم لا يكون جهاده مراغمة أو خضوعًا في سيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياة كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويدعها.
إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى!
قال الشيخ: وكان مما حفظته من تفسير الحسن قوله:
إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمة في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] 1.
يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] .
{أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] هذه الكلمة حث، وإطماع، وجدال، وحجة؛ وهي في الآية تصرح أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال للإيمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمال العمر، وكيف يعرف المؤمن أنه "سيأنى" له أن يعيش ساعة أو ما دونها؟ إذن فالكلمة صارخة تقول: الآن الآن قبل ألا يكون آن. أي: البدار البدار ما دمت في نفَس من العمر؛ فإن لحظة بعد "الآن" لا يضمنها الحي. وإذا فني وقت الإنسان انتهى زمن عمله فبقي الأبد كله على ما هو؛ ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، وإن هو إلا اللحظة الراهنة من عمره التي هي "الآن". فانظر -ويحك- وقد جُعل الأبد في يدك؛ انظر كيف تصنع به؟
تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى "الآن" دون غيره، على كثرة المعاني.
ثم قال: {لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الحديد: 16] وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقوم بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعالمهم وجاهلم سواء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسان تُرابيّ، لا يزال يضطرب على مكر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عيشه وموته؛ وما تقسو الحياة قسوتها على الناس إلا بهم، وما ترقّ رقتها إلا بالمؤمنين.
وجعل الخشوع للقلوب خاصة، إذ كان خشوع القلب غير خشوع الجسم، فهذا الأخير لا يكون خشوعًا، بل ذلًّا، أو ضَعَة، أو رياء أو نفاقًا، أو "ما كان" أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصًا مخلصًا محض الإرادة.
واشترط "القلب" كأنه يقول: إنما القلب أساس المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعًا لله وللحق. فإن لم يكن قلبه على تلك الحال، نبع منه الفاسق والظالم الطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلب تتفرع منه معاني الخُلُق، بالحبة تنسرح منها الشجرة؛ فخذ نفسك من قلبك كما شئت؛ حلوًا من حلو، ومرًّا من مر.
وخشوع القلب لله وللحق، معناه السموّ فوق حب الذات، وفوق الأَثَرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدة الحياة الصحيحة، ويجعلها في قانونين لا قانون واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق، عظمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرة وإن عمي الناس عنها، ويراها وهي بعيدة منه بمثل عين العُقَاب, يكون في لوح الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرى.
وقد تخشع القلوب لبعض الأهواء خشوعًا هو شر من الطغيان والقسوة؛فتقيد خشوع القلب "بذكر الله" هو في نفسه نفي لعبادة الهوى، وعبادة الذات الإنسانية في شهواتها. وما الشهوة عند المخلوق الضعيف إلا إله ساعتها, فيا ما أحكم وأعجب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يُشرَب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". جعل نزع الإيمان موقوتًا "بالحين" الذي تقترف فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك "الحين".
والخشوع لما "نزل من الحق" هو في معناه نفي آخر للكبرياء الإنسانية التي تفسد على المرء كل حقيقة، وتخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودة بالإنسان وشهواته لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل.
ويخرج من هذا وذلك تقرير الإرادة الإنسانية، وإلزامها الخير والحق دون غيرهما، وقهرها للذات وشهواتها، وجعلها الكبرياء الإنسانية كبرياء على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل؛ وإذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرار السكينة في النفس، ومحو الفوضى منها, وجعل نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلب في المؤمن حياة المعنى السامي، ويكون نبضه علامة الحياة في ذاتها، وخشوعه لله وللحق علامة الحياة في كمالها.
وقال: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فإذا هو ارتفع من الأرض وقرره الناس بعضهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأس الإنسان، وأفسدته العقول؛ إذ كان الإنسان ظالمًا متمردًا بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخ إلا السماء ومعانيها، وما كان شبيهًا بذلك مما يجيئه من أعلى, أي: بالسلطان والقوة؛ فيكون حقًّا "نازلًا" متدفعًا كما يتصوب الثقل من عال ليس بينه وبين أن ينفذ شيء.
والخشوع لما نزل من الحق ينفي خشوعًا آخر هو الذي أفسد ذات البين من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصراف القلب إليها بإيمان الطمع لا الحق.
وبحمل الآية على ذلك الوجه يتحقق العدل والنَّصَفَة بين الناس؛ فيكون العدل في كل مؤمن شعورًا قلبيًّا، جاريًا في الطبيعة لا متكلفًا من العقل؛ وبهذا وحده يكون للإنسان إرادة ثابتة عن الحق في كل طريق، لا إرادة لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة متسقة في نظامها مع إرادة الله، لا نافرة منها ولا متمردة عليها؛ وهذا ذلك يثبت القلب مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سموه وقوته وثباته، وينزل العمر عنده منزلة اللحظة الواحدة، وما أيسر الصبر على لحظة! وما أهون شر "الآن" إن كان الخير فيما بعده.
ألم يأن؛ ألم يأن؛ ألم يأن.
قال الشيخ: وكان الحسن في معانيه الفاضلة هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا إسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره أبدًا: "الآن قبل ألا يكون آن" وإمامه: "خذ نفسك من قلبك" وطريقته: "شرف الحياة لا الحياة نفسها".
وكان يرى هذه الحياة كوقْعَة الطائر؛ هي جناحين مستوْفِزين أبدًا لعمل آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيء إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبدًا إلا هَفْهافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض.
وآلة الوقوع والطيران بالإنسان شهواته ورغباته؛ فإن حطته شهوة لا ترفعه، فقد أوبقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ.
لقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس"، وهذا ضرب من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له: يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فيها لو أتاها؛ ليقوى على أن يدع ما فيه بأس، فإن الذي يترك ما هو له يكون أقوى على ترك ما ليس له.
والنفس لا بد راجعة يومًا إلى الآخرة، وتاركة أداتها؛ فقِوام نظامها في الحياة الصحيحة أن تكون كل يوم كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعة الإسلامية من عبادة راتبة تكون جزءًا من عمل الحياة في يومها وليلتها. فإذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائمًا تذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله؛ يحاول أن يرد السيف بكلمة! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته، ويشتد في صَوْلته، ويتصرف في شهواته، كأن له بطنين يجوعان معًا, فتستهلك شهوات المرء دينه, وتقذف به يمينًا وشمالًا، على قصد وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مَدْرجة, مَدْرجة من الشر.
ومثل هذا المسرف على نفسه لا يكون تمييزه في الدين، ولا إحساسه بالخير، إلا كذلك السِّكِّير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جَرَّتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه، وأراد أن يطيع الله ويتوب, نظر إلى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه!
قال الشيخ: ثم إني تبت على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي كبرياء النفس على شرها وظلمها وشهواتها، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم، هي في النفس أخت الشجاعة القاتلة للعدو الباغي: يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك؛ وأن خشوع القلب هو في معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.
وحدثتُ الحسن يومًا حديث رؤياي1، وما شُبه لي من عملي السيئ وعملي الصالح، فاستدمعت عيناه، وقال:
إن البنت الطاهرة هي جهاد أبيها وأمها في هذه الدنيا، كالجهاد في سبيل الله، وإنها فوز لهما في معركة من الحياة، يكونان هما والصبر والإيمان في ناحية منها قَبِيلًا، ويكون الشيطان والهم والحزن في الجهة المناوحة قبيلًا آخر.
إن البنت هي أم ودار، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها, كأنما يحملان الأحجار على ظهريهما حجرًا حجرًا؛ ليبتنيا تلك الدار في يوم يوم إلى عشرين سنة أو أكثر، ما صحبته وما بقيت في بيته.
فليس ينبغي أن ينظر الأب إلى بنته إلا على أنها بنته, ثم أم أولادها، ثم أم أحفاده؛ فهي بذلك أكبر من نفسها، وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حرمتها وحرمة الإنسانية معًا؛ والأب في ذلك يقرض الله إحسانًا وحنانًا ورحمة، فحق على الله أن يوفيه من مثلها، وأن يضعف له.
والبنت ترى نفسها في بيت أهلها ضعيفة كالمنقطعة وكالعالة، وليس لها إلا الله ورحمة أبويها؛ فإن رحماها, وأكرماها فوق الرحمة، وسَرَّاها فوق الكرامة، وقاما بحق تأديبها وتعليمها وتفقيهها في الدين, وحفظا نفسها طاهرة كريمة مسرورة مؤدبة؛ فقد وضعا بين يدي الله عملًا كاملًا من أعمالها الصالحة، كما وضعاه بين يدي الإنسانية. فإذا صارا إلى الله كان حقًّا لهما أن يجدا في الآخرة يمينًا وشمالًا يذهبان بينهما إلى عفو الله وكرمه، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها، وغذّاها فأحسن غذاءها، وأسبغ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه؛ كانت له ميمنة وميسرة من النار إلى الجنة".
فهذه ثلاث لا بد منها معًا، ولا تجزئ واحدة عن واحدة في ثواب البنت: تربية عقلها تربية إحسان، وتربية جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربية روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان.
قال الشيخ: والله أرحم أن تضيع عنده الرحمة؛ والله أكرم أن يضيع الإحسان عنده، والله أكبر ...
وهنا صاح المؤذن: الله أكبر.
فتبسم الشيخ وقام إلى الصلاة.












مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید