المنشورات
في اللهب ولا تحترق *:
أفي الممكن هذا؟
لَعُوب حسنة الدَّلّ، مُفَاكهة مُدَاعبة، تحيي ليلها راقصة مغنية؛ حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، وانتبه الفجر ليقبل, انكفأت إلى دارها فنَضَتْ وَشْيها، وخرجت من زينتها، وخلعت روحًا ولبست روحًا، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك. ثم ذهبت فتوضأت وأفاضت النور عليها، وقامت بين يدي ربها تصلي!
هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها. وما تراها في يوم إلا ظهرت لك أحسن مما كانت، حتى لتظن أن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شُعَاعة ساحرة، وأن كل فجر يترك لها في الصبح بريقًا ونضرة من قطرات الندى.
وتحسب أن لها دمًا يطعم فيما يطعم أنوار الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل.
وإذا كانت في وشيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة؛ فلها نور وبَصِيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق. إن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة، وضع على جمالها خاتم قرص الشمس.
فإن رأيتها بتلك الزينة في رقصها وتثنيها، قلت: هذه روضة مُفَتنَّة اشتهت أن تكون امرأة فكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها.
وهي متى نفذت إلى البقعة المجدبة من نفسك أنشأتْ في نفسك الربيع ساعة أو بعض ساعة.
وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نغمة إلى حركة؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغام صامتة تُسمَع وتُرَى في وقت معًا.
وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى، لتُخرج لك بظرفها صراحة الفن من إبهامين، كلاهما يعاون الآخر.
وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم المرأة.
وكأن الليل والنهار في قلبها؛ فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءًا وظلمة.
وهي إلى القِصَر، غير أنك إذا تأملت جمالها وتمامها، حسبتها طالت لساعتها.
وإلى النحافة، غير أنك تنظر فإذا هي رابية كأن بعضها كان مختبئًا في بعض.
ويخيل إليك أحيانًا في فن من فنون رقصها أن جسمها يتثاءب برعشة من الطرب، فإذا جسمك يهتز بجواب هذه الرعشة، لا يملك إلا أن يتثاءب ... ويُجَنّ رقصها أحيانًا، ولكن لتحقق بجنون الحركة أن العقل الموسيقي يُصرِّف كل أعضاء جسمها.
ومهما يكن طيش الفن في تأودها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها, ففي وجهها دائمًا علامة وقار عابسة تقول للناس: افهموني.
ولما رأيتها شهد قلبي لها بأن على وجهها مع نور الجمال نور الوضوء؛ وأنها متحرزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها؛ وأن لها عينًا عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالًا ولا جوابًا ولا اعتراضًا بينهما؛ وأن قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئًا غير ما في النساء؛ شيئًا عبقريًّا بالغ القوة، يكف الدواعي ويحسم الخواطر، ويرغم الإعجاب أن يكون ذُهولًا وحيرة، ويكره الحب أن يرجع مَهَابة واحتشامًا.
والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه "السينما"، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر؟
وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعًا في هذا الرأي، وكانت أخلاقها محشودة له، مُتَحَفِّلة به, فتلك هي الياقوتة التي تُرمى في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهدتها؛ إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.
وليس من امرأة إلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها, إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك؛ ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معًا؛ فيجعل الله عقابها في عملها، ويَكِلها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلة على أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية إن كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة. وما بد أن تستسر بطباع إما فاسدة وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد؛ ويرجع ضميرها الخالي محاولًا أن يمتلئ من ظاهرها، بعد أن كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها، وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب حياتها، مصرفة بهذه الأسباب، خاضعة لما يصرفها؛ ويُذهب الدين وينزل في مكانه الشيطان؛ ويزول الاستقرار ويحل في محله الاضطراب، وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم وتمنعها أن تتراكم، فإذا الغيوم ملتف بعضها على بعض؛ وتُخذَل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها فتنصرها بذلك على أقوى الرجال؛ فإذا المرأة من الضعف إلى تَهَافُت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغترّها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كل رغبة مزينة، ويستذلها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها؛ ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلًا وحسبًا وتهذيبًا وعقلًا وأدبًا وعلمًا وفلسفة، فلو أنها امرأة من "الأسمنت المسلح" لتفتَّتَتْ بالطبيعة التي في داخلها، ما دامت الطبيعة متوجهة إلى الهدم بعد أن فقدتْ ما كان يُمسكها أن تهدم وأن تنهدم.
لقد رَقَّ الدين في نسائنا ورجالنا, فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة: "حرام، وحلال" قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى "لائق، وغير لائق" ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى "معاقب عليه قانونًا، ومباح قانونًا" ثم انحطت آخرًا عند السواد والدَّهْماء إلى "ممكن، وغير ممكن"؟
قالت الياقوتة، أعني الراقصة:
أخذني أبي من عهد الطفولة بالصلاة، وأثبت في نفسي أن الصلاة لا تصح بالأعضاء إن لم يكن الفكر نفسه طاهرًا يصلي لله مع الجسم، فإن كانت الصلاة بالجسم وحده لم يزدد المرء من روح الصلاة إلا بُعْدًا. وقر هذا في نفسي واعتدته، إذ كنت أتعبد على مذهب الإمام الشافعي "رضي الله عنه"، فأصحح الفكر، وأستحضر النية في قلبي، وأنحصر بكلي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول: "الله أكبر"؛ وبذلك أصبح فكري قادرًا على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وأن يخرج منها ثم يعود إليها؛ ونشأت فيه القوة المصممة التي تجعله قادرًا على أن ينصرف بي عما يُفسد روح الصلاة في نفسي، وهي سر الدين وعماده.
ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبدًا إما متصلة أو مهيأة لتتصل. ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه بضع ساعات، متى هو أقر اليقين في نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئًا أو آثمًا؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته -مهما طال- عمل بضع ساعات.
قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت أمي، فلا تكاد تلم بي فكرة آثمة إلا انتصبا أمامي، فأكره أن أستلئم إليهما فأكون الفاسدة وهما الصالحان, واللئيمة وهما الكريمان؛ فدمي نفسه -ببركة الدين- يحرسني كما ترى.
قلت: فهذا الرقص؟
قالت: نعم، إنه قُضي علي أن أكون راقصة، وأن ألتمس العيش من أسهل طرق وألينها وأبعدها عن الفساد، وإن كان الفساد ظاهرها؛ أريد: الرقص، أو الخدمة في بيت، أو العمل في السوق. وأنا مطيقة لحريتي في الأولى، ولكني لن أملكها في الأخيرتين ما دام علي هذا الميسم من الحسن؛ وكم من امرأة متحجبة وهي عارية الروح، وكم من سافرة وروحها متحجبة؛ إن كنت لا تعلم هذا فاعلمه؛ وليس السؤال ما سألت، بل يجب أن يكون وضعه هكذا: هل ما ترى هو في ثيابي فقط، أو هو في ثيابي ونفسي؟
ها أنت ذا تغلغل نظرتك في عيني إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عيني راقصة؟
قلت: لا والله، ما أرى عينَيْ راقصة، ولكن عيني مجاهد في سبيل الله ... ! فاستضحكت وقالت: بل قل: عيني مجاهد يهزم كل يوم شيطانًا أو شياطين.
إني لأرقص وأغني، ولكن أتدري ما الذي يحرزني من العاقبة، ويحميني من وباء هذا الجمهور المريض النفس؟ فاعلم أني لا أشعر بالجمهور ولا بروح المسرح، إلا كما أشعر بروح المقبرة والمشيعين إليها؛ فهيهات بعد ذلك هيهات! ومن هذا لا أحس بقلوبهم ولا بشهواتهم، وما أنا بينهم إلا كالتي تؤدي عملًا فنيًّا على مَلَأ من الأساتذة الممتحنين، والنَّظَّارة يحكمون لها أو عليها؛ فهي في فكرة الامتحان, وهم لأنفسهم فيما شاءوا.
ولست أنكر أن أكثرهم، بل جميعهم، يخطئ في طريقة تناوله السيَّال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا علي، فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأة جميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكريات قديمة، أو نبهت ببعض معانيها بعض معانيه؟
قالت الياقوتة: فأنا كما ترى؛ أضطرب وجوهًا من الاضطراب في جذب الناس ودفعهم معًا، وإذا سلمت المرأة من أن يغلبها الطمع على فكرها، سلمت من أن يغلبها الرجل عن فضيلتها. وفي النساء حواس مغناطيسية كاشفة منبهة خُلقت فيهن كالوقاية الطبيعية، لتسلم بها المرأة من أن تخطر عفتها لغرض، أو تغرر بنفسها لإنسان، فإنك لتكلم المرأة، وتزين لها ما تزين، وهي شاعرة بما في نفسك، وكأنها ترى ما في قلبك ينشأ ويتدرج تحت عينيها، وكأنه في وعاء من الزجاج الرقيق الصافي تحمله على كفك يشفّ ويفضح، لا في قلب من لحم ودم تخفيه بين جنبيك فيُطوى ويُكتم.
وليس يبطل هداية هذه الحاسة في المرأة إلا طمعها المادي في المال والمتاع والزينة؛ فإن هذا الطمع هو القوة التي يغلب بها الرجل المرأة، فبنفسها غَلَبَها! وإذا تبذل طمع امرأة في رجل فهي مومس، وإن كانت عذراء في خدرها.
ويا عجبًا! إن وجود الطبيعة في النفس غير الشعور بها؛ فليس يُشعر المرأة بتمام طبيعتها النسائية إلا الزينة والمتاع وما به المتاع والزينة؛ فكأن الحكمة قد وقتها وعرَّضتها في وقت معًا، لتكون هي الواقية أو المخطرة لنفسها، فبعملها تُجزى، ومن عملها ما تضحك وتبكي.
قالت الياقوتة: ولذا أخذتُ نفسي ألا أطمع في شيء من أشياء الناس، وسخوتُ عن كل ما في أيديهم؛ فما يتكرمون علي إلا بهلاكي، وحسبي أن يبقى لعينَيْ قلبي ضوءهما المبصر. وأنا أعتمد على شهامة الرجل، فإن لم أجدها علمتُ أني بإزاء حيواني إنساني، فأتحذره حذري من مصيبة مقبلة. وإذا جاءني وقح خلق الله وجهه الحسن مسبة له، أو خلقه هو مسبة لوجهه القبيح، ذكرت أني بعد ساعة أو ساعات أقوم إلى الصلاة، فلا يزداد مني إلا بعدًا وإن كان بإزائي، فأُغلظ له وأتسخط، وأظهر الغضب وأصفعه صفعتي.
قلت: وما صفعتك؟
قالت: إنها صفعة لا تضرب الوجه ولكن تُخجله.
قلت: وما هي؟
قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة؛ أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول "الله أكبر" فهل أنت أكبر؟ أأقيم لك البرهان على صَغارك وحقارتك، أأنادي الشرطي؟!
تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة, وفي كل يوم تختنق وتنتعش.
ولكني لا أزال أقول:
أفي الممكن هذا؟
أفي المترادف شرعًا: رقصتْ وصلتْ؟
مصادر و المراجع :
١- وحي القلم
المؤلف: مصطفى صادق
بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية
الطبعة: الأولى
1421هـ-2000م
عدد الأجزاء: 3
19 يوليو 2024
تعليقات (0)