المنشورات

وحي الهجرة *:

إن التاريخ ليتكلم بلغة أوسع من ألفاظه إذا قرأه من يقرؤه على أنه بعض نواميس الوجود، صورت فيها النفس الإنسانية كيف اعتورت أغرضها، وكيف مدت في نسقها، وكيف تغلغلت في مسالكها، وما تأتي لها فجرت به مجراها، وما دفعها فانحدرت منه إلى مقارها، فهو ليس بكلام تستقبله تقرأ فيه، ولكنه أحوال من الوجود تعترضها فتغير عليك حسك بإلهامها وأحلامها، وتتناولها من ناحية فتتناولك من الأخرى؛ فإذا الكلمة من ورائها معنى، من ورائه طبيعة، من ورائها سبب وحكمة؛ وإذا كل حادثة فيها إنسانيتها وإلهيتها معا، وإذا الوجود في ذهنك كالساعة ترسم لك حد الثانية بخطرتين، وحد الدقيقة من عدد محدود من الثواني، وحد الساعة إلى حد اليوم؛ وإذا البيان في نفسك من كل هذه الحواشي، وإذا التاريخ فيا تقرؤه مفنن في ظاهره وباطنه يفيء عليك من ألفاظه ومعانيه بظلال هي صلتك أنت أيها الحي الموجود بأسرار ما كان موجودًا من قبل.
كذلك قرأت بالأمس تاريخ الهجرة النبوية في كتاب أبي جعفر الطبري لأكتب عنه هذه الكلمة، فلم أكن -علم الله- في كتاب ولا في حكاية، بل في عالم انبثق في نفسي مخلوقا تأما بأهله، وحوادث أهله، وأسرار أهله جميعًا، كما يرى المحب حبيبه, لا يكون الجميل في محل إلا امتلأ مكانه بعاشقه، فهو مكان من النفس، لا من الدنيا وحدها، وفيه الحياة كما هي في الوجود بمظهر المادة، وكما هي في الحب بمظهر الروح.
وتلك حالة من القراءة بالروح والكتابة بالروح، متى أنت سموت إليها رأيت فيها غير المعنى يخرج معنى، ومن لا شيء تخلق الأشياء، لأنك منها اتصلت بأسرار نفسك، ومن نفسك اتصلت بأسرار فوقها؛ فيصبح التاريخ معك فن الوجود الإنساني على الوجه الذي أفضت به الحكمة إلى الحياة لتستمر بالنفس الإنسانية، لا فن علم الناس على الوجه الذي أفضت به الحوادث مما بين الحياة والموت.
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغبر ثلاث عشرة سنة يدعو الله من قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلم يكن في الإسلام أول بدأته إلى رجل وامرأة وغلام: أما الرجل فهو هو صلى الله عليه وسلم، وأما المرأة فزوجه خديجة، وأما الغلام فعلي ابن عمه أبي طالب.
ثم كان أول النمو في الإسلام بحر وعبد: أما الحر فأبو بكر، وأما العبد فبلال، ثم اتسق النمو قليلا قليلا ببطء الهموم في سيرها، وصبر الحر في تجلده؛ وكأن التاريخ واقف لا يتزحزح، ضيق لا يتسع، جامد لا ينمو؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أخو الشمس, يطلع كلاهما وحده كل يوم. حتى إذا كانت الهجرة من بعد، فانتقل الرسول إلى المدينة, بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدمه على مركزها فحركها؛ وكانت خطواته في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ؛ وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب.
لقد كان في مكة يعرض الإسلام على العرب كما يعرض الذهب على المتوحشين, يرونه بريقا وشعاعًا ثم لا قيمة له، وما بهم حاجة إليه، وهو حاجة بني آدم إلا المتوحشين, وكانوا في المحادة والمخالفة الحمقاء، والبلوغ بدعوته مبلغ الأوهام والأساطير, كما يكون المريض بذات صدره مع الذي يدعوه في ليلة قارة إلى مداواة جسمه بأشعة الكواكب؛ وكانت مكة هذه صخرًا جغرافيا يتحطم ولا يلين، وكأن الشيطان نفسه وضع هذا الصخر في مجرى الزمن ليصد به التاريخ الإسلامي عن الدنيا وأهلها.
وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب وأهين، ورجف به الوادي يخطو فيه على زلازل تتقلب، ونابذه قومه وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه، وانصفق عنه عامة الناس وتركوه إلا من حفظ الله منهم؛ فأصيب كبيرا باليتم من قومه، كما أصيب صغيرًا باليتم من أبويه.
وكان لا يسمع بقادمه من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض نفسه عليه؛ ومع ذلك بقيت الدعوة تلوح وتختفي كما يشق البرق منسحابة على السماء, ليس إلا أن يرى ثم لا شيء بعد أن يرى! فهذا تاريخ ما قبل الهجرة في جملة معناه، غير أني لم أقرأه تاريخا، بل قرأت فيه فصلا رائعا من حكمة إلهية، وضعه الله كالمقدمة لتاريخ الإسلام في الأرض؛ مقدمة من الحوادث والأيام تحيا وتمر في نسق الرواية الإلهية المنطوية على رموزها وأسرارها، وتظهر فيها رحمة الله تعمل بقسوة، وحكمة الله تتجلى في غموض؛ فلو أنت حققت النظر لرأيت تاريخ الإسلام يتأله في هذه الحقبة، بحيث لا تقرؤه النفس المؤمنة إلا خاشعة كأنها تصلي، ولا تتدبره إلا خاضعة كأنها تتعبد.
بدأ الإسلام في رجل وامرأة وغلام، ثم زاد حرا وعبدا؛ أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها، مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع؛ فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ.
ولبث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة لا يبغيه قومه إلا شرا، على أنه دائب يطلب ثم لا يجد، يعرض ثم لا يقبل منه، ويخفق ثم لا يعتريه اليأس، ويجهد ثم لا يتخونه الملل، ويستمر ماضيا لا يتحرف، ومعتزما لا يتحول؛ أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها وثبت عليها، وكانت ثلاث عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفل ولد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث، حتى تسلمته الرجولة الكاملة بمعانيها من الطفولة الكاملة بوسائلها؟
أفليس هذا فصلا فلسفيا دقيقا يعلم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم, غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضع النافع قبل المنتفع، والمصلح قبل المقلد؛ وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع؟
ثم أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليعب منها تياره؛ فتدفعه في مجراه بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا, الثبات على الخطوة المتقدمة وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق؛ والتبرؤ من الأثرة وإن شحت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وغلب، وحمل الناس على محض الخير وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل وإن لم يأت بشيء، والواجب للواجب وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلا وإن حطمه كل ما حوله؟
ثم هي هي البرهانات القائمة للدهر قيام المنارة في الساحل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثبت ببرهان الفلسفة وعلوم النفس أنه روح وغاياتها المحتومة بالقدر، لا جسم ووسائله المتغلبة بالطبيعة؛ ولو كان رجلا ابتعثته نفسه، لتمحل الحيل لسياسته، ولأحدث طمعا من كل مطمع، ولركد مع الحوادث وهب، ولما استمر طوال هذه المدة لا يتجه وهو فرد إلا اتجاه الإنسانية كلها كأنما هو هي.
ولو هو كان رجل الملك أو رجل السياسة، لاستقام والتوى، ولأدرك ما يبتغي في سنوات قليلة، ولأوجد الحوادث يتعلق عليها، ولما أفلت ما كان موجودًا منه يتعلق به، ولما انتزع نفسه من محله في قومه وكان واسطة فيهم، ولا ترك عوامل الزمن تبعده وهي كانت تدنيه.
قالوا: إن عمه أبا طالب بعث إليه حين كلمته قريش فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء1، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: "يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". ثم استعبر صلى الله عليه وسلم فبكى.
يا دموع النبوة! لقد أثبت أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها كائنا ما كان، لا من ذهب الأرض وفضتها، ولا من ذهب السماء وفضتها إذا وضعت الشمس في يد والقمر في الأخرى.
وكل حوادث المدة قبل الهجرة على طولها لست إلا دليل ذلك الزمن على أنه زمن نبي، لا زمن ملك أو سياسي أو زعيم؛ ودليل الحقيقة على أن هذا اليقين الثابت ليس يقين الإنسان الاجتماعي من جهة قوته، بل يقين الإنسان الإلهي من جهة قلبه؛ ودليل الحكمة على أن هذا الدين ليس من العقائد الموضوعة التي تنشرها عدوى النفس للنفس؛ فها هو ذا لا يبلغ أهله في ثلاث عشرة سنة أكثر مما تبلغ أسرة تتوالد في هذه الحقبة؛ ودليل الإنسانية على أنه وحي الله بإيجاد الإخاء العالمي والوحدة الإنسانية. أفلم يكن خروجه عن موطنه هو تحققه في العالم؟
ثلاث عشرة سنة, كانت ثلاثة عشر دليلًا تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رجل ملك، ولا سياسة، ولا زعامة؛ ولو كان واحدا من هؤلاء لأدرك في قليل؛ وليس مبتدع شريعة من نفسه، وإلا لما غبر في قومه وكأنه لم يجدهم وهم حوله؛ وليس صاحب فكرة تعمل أساليب النفس في انتشارها؛ ولو كان لحملهم على محضها وممزوجها؛ وليس رجلا متعلقا بالمصادفات الاجتماعية، ولو هو كان لجعل إيمان يوم كفر يوم؛ وليس مصلح عشيرة يهذب منها على قدر ما تقبل منه سياسة ومخادعة، ولا رجل وطنه تكون غايته أن يشمخ في أرضه شموخ جبل فيها، دون أن يحاول ما بلغ إليه من إطلاله على الدنيا إطلال السماء على الأرض، ولا رجل حاضره إذا كان واثقا دائما أن معه الغد وآتيه، وإن أدبر عنه اليوم وذاهبه؛ ولا رجل طبيعته البشرية يلتمس لها ما يلتمس الجائع لبطنه، ولا رجل شخصيته يستهوي بها ويسحر، ولا رجل بطشه يغلب به ويتسلط، ولا رجل الأرض في الأرض، ولكن رجل السماء في الأرض.
هذه هي حكمة الله في تدبيره لنبيه قبل الهجرة, قبض عنه أطراف الزمن، وحصره من ثلاث عشرة سنة في مثل سنة واحدة، ولا تصدر به الأمور مصادرها كي تثبت أنها لا تصدر به، ولا تستحق به الحقيقة لتدل على أنها ليست من قوته وعمله.
وكان صلى الله عليه وسلم على ذلك -وهو في حدود نفسه وضيق مكانه- يتسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحد ولا يعلمه، وكأنما كانت شمس اليوم الذي سينتصر فيهن -قبل أن تشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة -مشرقة في قلبه صلى الله عليه وسلم.
والفصل من السنة لا يقدمه الناس ولا يؤخرونه، لأنه من سير الكون كله؛ والسحابة لا يشعلون برقها بالمصابيح، ومع النبي من مثل ذلك برهان الله على رسالته، إلى أن نزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] فحل الفصل، وانطلقت الصاعقة، وكانت الهجرة.
تلك هي المقدمة الإلهية للتاريخ، وكان طبيعيا أن يطرد التاريخ بعدها، حتى قال الرشيد للسحابة وقد مرت به: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك!
















مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید