المنشورات
قلت لنفسي وقالت لي
قلت لنفسي: ويحك يا نفس! ما لي أتحامل عليك؛ فإذا وفيت بما في وسعك أردت منك ما فوقه وكلفتك أن تسعي؛ فلا أزال أعنتك من بعد كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن؛ وما أنفك أجهدك كلما راجعك النشاط، وأضنيك كلما ثابت القوة؛ فإن تكن لك هموم فأنا أكبرها، وإذا ساورتك الأحزان فأكثرها مما أجلب عليك.
أنت يا نفس سائرة على النهج، وأنا أعتسف بك أريد الطيران لا السير، وأبتغي عمل الأعمار في عمر، وأستحثك من كل هجعة راحة بفجر تعب جديد، وكأني لك زمن يماد بعضه بعضا، فما يبرح ينبثق عليك من ظلام بنور ومن نور بظلام؛ ليهيئ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ، من بعد، فتذهبين حين تذهبين ويعيش قلبك في العالم ساريا بكلمات أفراحه وأحزانه.
وقالت لي النفس: أما أنا فإني معك دأبا كالحبيبة الوفية لمن تحبه؛ ترى خضوعها أحيانا هو أحسن المقاومة؛ وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب فكيف تريني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم؟
ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك؛ فإن لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائدًا على الدنيا؛ وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فقد وجدتها وما وجدتك؛ وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتًا صغيرًا، ودنيا الآخر كالقرية الململمة2، ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا.
والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة؛ فما عانيته اليوم حركة من جسمك، ألفيته غدًا في جسمك قوة من قوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها كأيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووشك وانقطاعه منها، بمن خلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعتها ودقائقها وثوانيها؛ أفتراه يغفل فيقدرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروبا من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمق أحمق إلى نهاية الحمق؟
اتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو لين هين مسوى تسوية؛ وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة، وأنت إنما تكد لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة؛ فذلك يا صاحبي ليس تعبا في حفر الأرض، ولكنه تعب في حفر الكنز.
اتعب يا صاحبي تعبك؛ فإن عناء الروح هو عمرها؛ فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم؛ وأحد هذين عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش.
قلت لنفسي: فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء. وإن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بنيت، ثم بناؤها كلما هدمت؛ فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معا؛ وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مر يوم، أو عهد كاليوم, رأيت في مكانه إنسانًا خياليا كمسألة من مسائل النحاة فيها قولان ... ! فهو يحتمل في وقت واحد تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر! وكم من اسم جميل إذا هجس في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان ... !
اما -والله- إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابها في رأي النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين, وإني لأرى العالم أحيانا كالقطار السريع منطلقا بركبه وليس في من يقوده، وأرى الغفلة المفرطة قد بلغت من هذا الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة كالموظف تحت التجربة، فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من الآن. كأنه إذا عاش يتعلم الخير والشر، ويدرك ما يصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة رجع من بعدها يعيش منتظما على استواء واستقامة، وفي إدراك وتمييز. مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يعد منها في أوهام الحياة أن رجلا بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتا في فراشه؛ بل وجدوه مولودًا في فراشه ... !
وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم؟ يا هذا ليس لمصباح الطريق أن يقول: "إن الطريق مظلم" إنما قوله إذا أراد كلاما أن يقول: "ها أنذا مضيء".
والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم؛ فإن هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها، والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس, وبين كل شيئين مما يعتور الحيوانية -كالخلو والامتلاء، واللذة والألم- تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس، لتحطها من مرتبة إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد العالمة على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي.
اعمل يا صاحبي عملك؛ فإذا رأيت في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله، بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك، ودعه يخلو وتضاعف أنت.
إنه ليوشك أن يكون في الناس "كالبنوك"؛ هذه مستودعات للمال تحفظه وتخرج منه وتثمره، وتلك مستودعات للفضائل تحفظها وتخرج منها وتزيدها، إفلاس رجل من أهل المال، هو إطلاق النكبة مسدسها على رجل تقتله؛ ولكن إفلاس "بنك" هو إطلاق النكبة مدفعها الكبير على مدينة تدمرها.
قلت لنفسي: فما أشد الألم في تحويل هذا الجسد إلى شبه روح مع الروح! تلك هي المعجزة التي لا توجد في غير الأنبياء، ولكن العمل لها يجعلها كأنها موجودة. والأسد المحبوس محبوسة فيه قوته وطباعه؛ فإن زال الوجود الحديدي من حوله أو وهنت ناحية منه، انطلق الوحش، والرجل الفاضل فاضل ما دام في قفصه الفكري, وهو ما دام في هذا القفص فعليه أن يكون دائما نموذجا معروضا للتنقيح الممكن في النفس الإنسانية؛ تصيبه السيئة من الناس لتختبر فيه الحسنة، وتبلوه الخيانة لتجد الوفاء، ويكرثه البغض ليقابله بالحبن وتأتيه اللعنة لتجد المغفرة؛ وله قلب لا يتعب فيبلغ منزلة إلا التعب ليبلغ منزلة أعلى منها، وله فكر كلما جهد فأدرك حقيقة كانت الحقيقة أن يجهد فيدرك غيرها.
وقالت لي النفس: إن من فاق الناس بنفسه الكبيرة كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة؛ إن الشيء النهائي لا يوجد إلا في الصغائر والشر، أما الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، فهذه حقائق أزلية وجدت لنفسها؛ كالهواء يتنفسه كل الأحياء على هذه الأرض ولا ينتهي، ولا يعرف أين ينتهي؛ وكما ينبعث النور من الشمس والكواكب إلى هذه الأرض يشبه أن تكون تلك الصفات منبعثة إلى النفوس من أنوار الملائكة، وبهذا كان أكبر الناس حظا منهم هم الأنبياء المتصلين بتلك الأنوار.
ومن رحمة الله أن جعل في كل النفوس الإنسانية أصلا صغيرًا يجمع فكرة الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، وقد تعظم فيه هذه الصفات كلها أو بعضها، وقد تصغر فيه بعضها أو كلها: ألا وهو الحب.
لا بد أن تمر كل حياة إنسانية في نوع من أنواع الحب، من رقة النفس ورحمته، إلى هوى النفس وعشقها.
وإذا بلغ الحب أن يكون عشقا، وضع يده على المفاتيح العصبية للنفس، وفتح للعظائم والمعجزات أبوابها؛ حتى أنه ليجعل الخرافة الفارغة معجزة دقيقة ويملأ الحياة بمعان لم تكن فيها من قبل، ويصبح سر هذا الحب لا ينتهي؛ إذ هو سر لا يدرك ولا يعرف.
اجهد جهدك يا صاحبي، فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحبسك، ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار، ولا بد للمرآة من ظاهر غير ظاهر الحجر لتكون به مرآة.
قلت لنفسي: فما أشده مضضا أعانيه! إن أمري ليذهب فرطًا1. أكلما ابتغيت من الحياة مرحا أطرب له وأهتز، جاءتني الحياة بفكرة أستكد فيها وأدأب؟ أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي؟ وهل أنا شجرة في مغرسها: تنمو صاعدة بفروعها، ونازلة بجذورها, غير أنها لا تبرح مكانها؟ أو أن تمثال على قاعدته: لا يتزحزح عنها إلا ساعة لا يكون تمثالا، ولا يدعها حتى تدعه معاني العظمة التي نصب لها؟
قالت لي النفس: ويحك! لا تطلب في كونك الصغير ما ليس فيه؛ إن الناس لو ارتفعوا إلى السماء وتقلبوا فيها كما يسيح أهل قارة من الأرض في قارة غيرها،وابتغوا أن يحملوا معهم مما هناك تذكارًا صغيرًا إلى الأرض, لوجدوا أصغر ما هنالك أكبر من الأرض كلها؛ فأنت سائح في سماوات.
أنت كالنائم: له أن يرى وليس له أن يأخذ شيئا مما يرى إلا وصفة، وحكمته، والسرور بما التذ منه، والألم بما توجع له.
لن تكون في الأرض شجرة برجلين تذهب هنا وهناك، ولكن الشجرة ترسل أثمارها يتناقلها الناس، وهي تبدع الثمار إبداع المؤلف العبقري ما يؤلفه بأشد الكد وأعظم الجهد، مطلقة ضميرها في الفكرة الصغيرة، تعقدها شيئا شيئا، ثم تعود عليها بالزيادة، ولا تزال كل وقت تعود عليها حتى تستفرغ أقصى القوة؛ ثم يكون سرورها في أن تهب فائدتها، لأنها لذلك وجدت.
إن في الشجرة طبيعية صادقة لا شهوة مكذوبة؛ فالحياة فيها على حقيقتها، وأكثر ما تكون الحياة في الإنسان على مجازها؛ وشرط المجاز الخيال والمبالغة والتلوين؛ ولكن متى اختار الله رجلا فأقر فيه سرا من أسرار الطبيعة الصادقة، ووهب له العاطفة القادرة التي تصنع ثمارها -فقد غرسه شجرة في منبتها لا مفر ولا مندوحة، وقد يخيل له ضعف طبيعته البشرية أحيانا أن نضرة المجد التي تعلوه وتتألق كشعاع الكوكب، هي تعبه وضجره، أو أثر انخذاله وألمه ومسكنته؛ وهذا من شقاء العقل؛ فإنه دائما يضيف شيئا إلى شيء, ويخلط معنى بمعنى، ولا يترك حقيقة على ما هي؛ كأن فيه ما في الطفل من غريزة التقليد؛ والعقل لا يرى أمامه إلا الإلهية، فهو يقلدها في مداخلة الأشياء بعضها في بعض، لإيجاد الأسرار بعضها من بعض.
ومن ثم كانت الحقيقة الصريحة الثابتة مدعاة للملل العقلي في الإنسان، لا يكاد يقيم عليها أو يتقيد بها، فما نال شيئا إلا ليطمع في غيره، وما فاز بلذة إلا ليزهد فيها، وأجل ما أحبه الإنسان أن يناله، فإذا ناله وقع فيه معنى موته، وبدأ في النفس عمرا آخر من حالة أخرى، أو مات لم يبدأ؛ فلا بد لهذا الإنسان مع كل صواب من جزء من الخطأ، فإن هو لم يجد خطأ في شيء ائتفك لنفسه1 الخطأ المضحك في شبه رواية خيالية.
إنه لشعر سخيف بالغ السخافة أن يتخيل الغريق مفكرًا في صيد سمكة رآها ... ولكن هذا من أبلغ البلاغة عند العقل الذي يبحث عن وهم يضيفه إلى هذه الحقيقة ليضحك منها، كما يبحث لنفسه أحيانا في أجمل حقائق اللذة عن ألم يتألم به ليعبس فيه!
قلت لنفسي: فهل ينبغي لي أن أحرق دمي لأني أفكر, وهل أظل دائما بهذا التفكير كالذي ينظر في وجه حسناء بمنظار مكبر؛ لا يريه ذلك الوجه المعشوق إلا ثقوبا وتخريما كأنه خشبة نزعت منها مسامير غليظة ... ! فلا يجد المسكين هذه الحقيقة إلا ليفقد ذلك لجمال؟ وهل بد من الشبه بين بعض الناس وبين ما ارتصد له من عمل يحيا به؛ فلا يكون الحوذي حوذيا إلا لشبه بين نفسه وبين الخيل والبغال والحمير؟
وقالت لي النفس: إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب؛ فخذ لكل شيء أداته، وكن جاهلا أحيانا، ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة، فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف، ولولاه لهلك الأنبياء والحكماء والشعراء غما وكمدا، ولكانوا في هذا الوجود، على هذه الأرض، بين هذه الحقائق, كالذي قيد وحبس في رهج تثيره القدم والخف والحافر, لا يتنفس إلا الغبار يثار من حوله إلى أن يقضى عليه.
اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة؛ فإنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح، واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات, هذا ليس لي؛ هذا لا ينبغي لي.
إن الروح الكبيرة هي في حقيقتها الطفل الملائكي.
وعلم خسائس الحياة يجعل للإنسان في كل خسيسة نفسا تتعلق بها، فيكون المسكين بين نفسين وثلاث وأربع، إلى ثلاثين وأربعين كلهن يتنازعنه، فيضيع بهذه الكثرة, ويصبح بعضه بلاء على بعض، وتشغله الفضول، فيعود لها كالمزبلة لما ألقي فيها، ويمحق في نفسه الطبيعية حس الفرح بجمال الطبيعة، كما يمحق في المزبلة معنى النظافة ومعنى الحس بها.
هذه الأنفس الخيالية في هذا الإنسان المنكود، هي الأرواح التي ينفخها في مصائبه، فتجعلها مصائب حية تعيش في وجوده وتعمل فيه أعمالها، ولولاها لماتت في نفسه مطامع كثيرة، فماتت له مصائب كثيرة.
انظر بالروح الشاعرة، تر الكون كله في سمائه وأرضه انسجاما واحدا ليس فيه إلا الجمال والسحر وفتنة الطرب، وانظر بالعقل العالم, فلن ترى في الكون كله إلا مواد علم الطبيعة والكيمياء.
ومدى الروح جمال الكون كله؛ ومدى العقل قطعة من حجر، أو عظمة من حيوان، أو نسيجة من نبات، أو فلذة من معدن، وما أشبهها.
اجهل جهلك يا صاحبي؛ ففي كل حسن غزل بشرط ألا تكون العاشق الطامع، وإلا أصبت في كل حسن هما ومشغلة!
قلت لنفسي: إلى الآن لم أقل لك ذلك المعنى الذي كتمته عنك.
وقالت لي النفس: وإلى الآن لم أقل لك إلا جواب ذلك الذي كتمته عني.
مصادر و المراجع :
١- وحي القلم
المؤلف: مصطفى صادق
بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية
الطبعة: الأولى
1421هـ-2000م
عدد الأجزاء: 3
19 يوليو 2024
تعليقات (0)