المنشورات

الشيطان *:

قال الشيخ أبو الحسن بن الدقاق: كان شيخي أبو عبد الله محمد الأزهري العجمي "رضي الله عنه" رجلا صاحب آيات وخوارق مما فوق العقل، كأنما هو سر من الأسرار الجارية في هذا الكون، قد بلغ بنفسه رتبة النجم في أفقه البعيد؛ ففيه أهواء الإنسان وشهواته وطباعه، إلا أنها كنوز النجم في تألقه ولألائه من إشراق روحه وصفائها، وقد ارتفع بآدميته فوق نفسها؛ فاصبح في الناس ومعه سماؤه, يجعلها بين قلبه وبين الدنيا.
والرجل إذا بلغ هذا المبلغ كان حيا كالميت ساعة احتضاره؛ ينظر إلى كل ما في الحياة نظرة من يترك لا من يأخذ، ومن يعتبر لا من يغتر، ومن يلفظ لا من يتذوق، ومن يدرك السر لا من يتعلق بالظاهر؛ ويرى الشهوات كأنها من لغة لا يعرفها، فهي ألفاظ فيها معاني أهلها لا معانيه, وإنما تلبس كلماتنا معانيها من أنفسنا. وفي النفوس مثل الهشيم: إذا وقعت فيه المعاني المشتعلة استطار حريقا وتضرم، وفيها على المجاهدة مثل الماء؛ فإذا خالطته تلك المعاني انطفأت به وخمدت.
وقد سألت الشيخ مرة: كيف تحدث الكرامات والخوارق للإنسان؟ فقال: يا ولدي إن الإنسان من الناس المحجوبين يتصرف في جسمه ولا يكاد يملك لروحانيته شيئا، فإذا أبلى في المجاهدة ووقع في قلبه النور، تصرف في روحانيته ولا يكاد يملك لجسمه شيئا، فمن أطاق أن ينسلخ من بشريته، واتسعت ذاته في معاني السماء بمقدار ما ضاقت من معاني الأرض، وكان معدا لأن يتحقق في روحانيته، معانا على ذلك بطبيعة فوق الاعتدال, فقد شاع في الكون، وأصاب له وجها ومذهبا إلى تلك القوة التي تهدم في العالم وتبني، وتفرق وتجمع، وتنقل الصور بعضها إلى بعض؛ فإن الكون كله جوهر واحد هو النور، حتى الجبل هو نور صخري، وحتى البحر هو نور مائي، وحتى الحديد والذهب والتراب، كل ذلك نور1 صرفته القدرة الإلهية تصريفها المعجز، فكان، على ما نرى: ظاهرا مخيل يلائم نقصنا وعجزنا، وحقيقة قارة على غير ما نرى. ومن ذا يعقل أن الصخر نور متجمد إذا لم يكن له إلا عقل عينه وحواسه؟ ومن ذا يطيق أن يفهم بحواسه وعينه قول الله -تعالى-: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ؟ فالجبال جامدة ثابتة، غير أنها تمر بأرضها وتموج في نفسها؛ ومتى تأذن الله أن ينكشف نور كلامه للعقل الإنساني، فستكون هذه الآية علما جديدًا في الأرض، يثبت أن السحاب والجبل مادة واحدة وصنع واحد.
ويا لها سخرية بالإنسان وجهله! فإنه إذ كانت الحقيقة غير ما نرى، فكل شيء في الدنيا هو رد على النظر الإنساني، ويكاد الجبل العظيم يكون كلمة عظيمة تقول للإنسان: "كذبت! ".
فالشأن في الخوارق والكرامات راجع إلى القدرة أن يسلط الإنسان الروحاني ما فيه من سر النور على ما في بعض الأشياء من هذا السر، وتلك هي طاعة بعض الكون لمن ينصرف عن المادة ويتصل بخالقها.
فإذا بقي في الرجل الروحاني شيء من أمر جسمه يقول: "أنا ... " لم يكن في الرجل من تلك القدرة ذرة؛ فإن هو حاول أن يخرق العادة، أبى الكون أن يعرفه إلا كما يعرف حجرا ملقى يحاول أن يتصرف بالجبل الذي هو منه فينقله أو يزحزحه أو يزلزله.
ولا خير على الأرض مطلقا إلا وهو أخذ من حقوق هذه الـ"أنا ... " في إنسانها، ولا شر على الأرض مطلقا إلا وهو إضافة حقوق إليها؛ فحين لا يبقى لها حق في شيء عند نفسها، يجب لها الحق عندئذ على كل شيء. وهذه هي الكرامة؛ تكرم الخليقة من أكرمه الخالق.
فمن أراد أن تتصل نفسه بالله، فلا يكن في نفسه شيء من حظ نفسه، ولا يؤمن إيمان هؤلاء العامة: يكون إيمانهم بالله فكرة تذكر وتنسى، أما عملهم فهو إيمانهم الراسخ بالجسم وشهواته يذكر ولا ينسى.
وأنت ترى رجال الروح يأكلون ويشربون ويلبسون، ولكن هذا كله ليس فيه ذرة من أرواحهم، على خلاف غيرهم من الناس؛ فهؤلاء كل أرواحهم في مطاعمهم ومناعمهم، ومن ثم لا يجري الشيطان من الأولين إلا في مجار ضيقة.
أشد الضيق لا يكاد ينفذ منها إلى فكر أو شهوة أو حلم من أحلام الدنيا، أما الآخرون فالشيطان فيهم هو تيار الدم، يعب عبابه في الأسفل والأعلى.
قال أبو الحسن: وكنا يومئذ في دمشق، فنبهني كلام الشيخ عن الشيطان إلى ما قرأته عن كثيرين ممن رأوا الشيطان أو حاوروه أو صارعوه؛ فقلت للشيخ: إن من حقك علي أن أسألك حقي عليك، وما في نفسي أحب إلي ولا أعجب من أن أرى الشيطان وأكلمه وأسمعه؛ وأنت قادر أن تنقلني إليه كما نقلتني إلى ما دخلت بي عليه من عوالم الغيب.
قال الشيخ: وماذا يرد عليك أن ترى الشيطان وتكلمه؟
قلت: سبحان الله! لا يجدي علي شيئا إلا أن أسخر منه.
قال الشيخ: فإني أخشى يا ولدي، أن يكون الشيطان هو الذي يريد أن تراه وتسمعه ... !
قلت: فإني فأريد أن أسأله عن سره، فيكون علمًا لا سخرية.
قال: لو كشف لك عن سره لما كان شيطانا، فإنما هو شيطان بسره لا بغيره.
قلت: فأريد أن أرى الشيطان لأكون قد رأيت الشيطان!
قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! لو كنت يا أبا الحسن بأربع أرجل لهربت من الشيطان بثلاث منها وتركته يجرك من واحدة!
قلت: يا سيدي، فلو كنت حمارًا لبطل عمل الشيطان في أرجلي الأربع كلها؛ إذ لا حاجة به إلى إغواء حمار!
فتبسم الشيخ وقال: ولا بد أن ترى الشيطان وتكلمه؟
قلت: لا بد.
قال: إنه هو يقولها، فقم!
قال أبو الحسن: وكان الشيخ إذا مشى إلى أمر خارق بقيت معه غائبا عن الحس، كأنه يبطل مني ما أنا به أنا، فأصبح ظلا آدميا معلقا به. ولا تقع الخوارق إلا لمن وجد القوة المكملة لروحه، وهذه القوة تستمد من الشيخ الواصل، فلا بد من إمام يأخذ عن إمام، كأنها سلسلة نفسية متميزة في الأرض، فتتغير الواحدة منها بالواحدة، إذ تقع في جوها فتورق وتثمر؛ كالشجرة: جو يكسوها، وجو يذبلها، وجو يسلبها سلبا؛ وكذلك تفعل النفس إذا كان لها جو.
وخرجنا من دمشق وأنا خلف الشيخ كالمحمول، فرأيتنا وقد أشرفنا على بناء عظيم، ورأيت أقوامًا يتلقون الشيخ ويسلمون عليه ويتبركون بمقدمه؟ فأنكرتهم نفسي ووجدت منهم وحشة، فالتفت إلي الشيخ وقال: هؤلاء من الجن، وما إليهم قصدنا، فلا تشتغل بما ترى واشتغل بي.
ثم ننتهي إلى البناء العظيم، فتستقبلنا طائفة أخرى، ويدخلون الشيخ وأنا خلفه، ويمرون بنا على دنيا مخبوءة تعجز الوصف، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت؛ فيقولون: هذه كنوز سليمان وذخائره، ويطوفون بالشيخ يعرضونها عليه كنزا كنزًا، فرأينا ثم نعيما وملكا كبيرًا، ثم انتهينا آخرًا إلى مغارة خسيفة كأنها عرق من عروق جسم الأرض، يتفجر منها دوي كالرعد القاصف، إلا أنه في السمع كخوار الثور، إلا أنه ثور خيل إلي أن رأسه في قدر جبل عظيم، يتعلق به غبغب1 في قدر جبل آخر، على جسم يسد الخافقين، فخواره كأنه صراخ الأرض، وإذا أنا بأقبح مكان منظرًا، وأنتنه ريحا، كأنه سجن بناؤه من الجيف.
فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا سجن إبليس، وهو هنا في هذه المغارة منذ زمن سليمان عليه السلام.
قلت: أفمسجون هو؟
قالوا: وإنه مع ذلك موقر بأمثال الجبال حديدا يربض به في محبسه، فلا يتزحزح ولا يتحلحل.
قلت: وإنه مع ذلك قد ملأ الدنيا فسادًا، فكيف به لو كان طليقا؟
قالوا: فلو أنه كان طليقا لاستحوذ على الناس كافة؛ فيجتمع أهل الأرض على شهوة واحدة لا شيء غيرها، فيبطل مع هذه الشهوة الواحدة كل تدبير بينهم، فلا تقوم لهم سياسة، ولا يكون بينهم وازع؛ فيرجعون كالكلاب أصابها الكلب وهاج بها، فأنيابها في لحمها، لا يزال يعض بعضها بعضا، فليس لجميعها إلا عمل واحد يسلمها إلى الهلاك، ويصبح ظهر الأرض أعرى من سراة أديم.
وإنما يصلح الناس باختلاف شهواتهم وتنافرها وتنازعها: فبعضها يحكم بعضا، وشيء منها يزع شيئان ومن تخلص من نزوة قمع بها نزوة أخرى؛ كالمتزوج المحصن؛ يحكم بالجلد والرجم على من ليست له امرأة فزنا؛ وكالغني الواجد؛ يحكم على اللص الذي لم يجد فسرق، وهلم جرًا.
وما ينشأ الناس في ثلاثة أعمار، فيشبون ويكتهلون ويهرمون، إلا لتختلف شهواتهم وتختلف مقادير الرغبة فيها، فتتحقق من ثم تلك الحكمة الإلهية في التدبير ويجد الشرع محله بينهم، كما يجد العصيان بينهم محله.
ولو أن أمة كلها أطفال أو كهول أو شيوخ، لبادت في جيل واحد؛ وإنه ليس أسمج من الرذيلة تكون وحدها في الأرض إلا الفضيلة تكون وحدها، فلا بد من شيء يظهر به شيء غيره كالضد والضد؛ والمعركة إذا انتصر كل من فيها كانت هزلا وكانت شيئا غير المعركة.
قال أبو الحسن: وقلت لهم: فإذا كان الشيطان سجينا قد ربضت به أثقاله، حتى لهو في سجن من سجن مبالغة في كفه والتضييق عليه, فكيف يفتن الناس في أرجاء الأرض ويوسوس في قلوبهم، حتى لهو يد بين كل يدين، وحتى لهو العين الثلاثة لعيني كل إنسان؟
قالوا: إن في روحه النارية قوة تفصل منها وتنتشر في الأرض، كشعاع الشمس من الشمس: هذه كرة نارية ميتة معلقة على الأجسام مرصدة لها، وتلك كرة نارية حية معلقة على النفوس مرصدة لها، وبهذه وتلك عمار الدنيا وأهل الدنيا.
قلت: لعلكم أردتم أن تقولوا: خراب الدنيا وأهل الدنيا. فغلطتم، فكان ينبغي أن يجيء بدل الغلط ...
فقال أحدهم: يا أبا الحسن، خرق الثوب المسمار، جاز هنا لأمن اللبس أن يكون المفعول به -وهو الثوب- مرفوعا وفاعله -وهو المسمار- منصوبًا، هل جئت -ويحك- تطلب النحو أو تطلب الشيطان؟
قال أبو الحسن: فقطعني الجني -والله- وأخجلني، ونظرت خلسة إلى الشيخ أراه كيف يسخر مني، فإذا الشيخ وقد املس فلا أراه، وإذا أنا وحدي بين الجن وبإزاء هذا الساخر وضعت عينه في جبهته وشق فمه في قفاه ... ! فسري عني وزال ما أجده، وقلت في نفسي: الآن أبلغ أربي من الشيطان ويكون الأمر على ما أريد، فلا أجد من أحتشم ولا تقطعني هيبة الشيخ!
ووقع هذا الخاطر في نفسي، فاستعذت بالله ولعنت الشيطان وقلت: هذا أول عبثه بي وجعله إياي من أهل الرياء، كأن لي شأنا في حضور الشيخ وشأنا في غيابه، وكأني منافق أعلن غير ما أسر، وقلت: إنا لله! كدت يا أبا الحسن تتشيطن!
ثم هممت أن أنكص على عقبي، فقد أيقنت أن الشيخ إنما تخلى عني لأكون هنا بنفسي لا به، وما أنا هنا إلا به لا بنفسي، فيوشك إذا بقيت في موضعي أن أهلك! بيد أن المغارة انكشفت لي فجأة فما ملكت أن أنظر؛ ونظرت فما ملكت أن أقف، ووقفت أرى، فإذا دخان قد هاج فارتفع يثور ثورانه حتى ملئ المكان به، ثم رق ولطف.
واستضرمت منه نار عظيمة لها وهجان شديد يتضرم بعضها في بعض، ويسمع من صوتها معمعة قوية، ثم خمدت.
وانفجر في موضعها كالسد المنبثق من ماء كثيف أبيض أصفر أحمر، كأنه صديد يتقيح في دم، ثم غاض.
وتنبعت في مكانه حمأة منتنة جعلت تربو وتعظم حتى خفت أن تبتلعني وأذهب فيها، فسميت الله -تعالى- فغارت في الأرض.
ثم نظرت فإذا كلب أسود محمر الحماليق، هائل الخلقة مستأسد، قد وقف على جيفة قذرة غاب فيها خطمه يعب مما تسيل به.
فقلت: أيها الكلب، أأنت الشيطان؟
وأنظر فإذا هو مسخ شائه كأنه إنسان في بهيمة قد امتزجا وطغى منهما شيء على شيء، وأما وجهه فأقبح شيء منظرًا، تحسبه قد لبس صورة أعماله.
ونطق فقال: أنا الشيطان!
قلت: فما تلك الجيفة؟
قال: تلك دنياكم في شهواتها، وأنا ألتقم قلب الفاسق أو الآثم منكم، كما ألتقم دودة من هذه الجيفة.
قلت: عليك لعنة الله وعلى الفاسقين والآثمين، فكيف كنت دخانا، ثم انقلبت نارًا، ثم رجعت قيحا، ثم صرت حمأة، ثم كنت كلبا على جيفة؟
قال: لا تلعن الفاسقين والآثمين، فإنهم العباد الصالحون بأحد المعنيين، وأنت وأمثالك عباد صالحون بالمعنى الآخر، أليس في الدنيا حياء ووقاحة؟ فأولئك يا أبا الحسن هم وقاحتي أنا على الله! أنا منكم في زهدكم حرمان الحرمان، وفقر الفقر، ولقد أهلكتموني بؤسا؛ غير أني معهم لذة اللذة، وشهوة الشهوة، وغنى الغنى، لا تتم لذة في الأرض، ولا تحلو لذائقها وإن كانت حلالًا،إلا إذا وضعت أنا فيها معنى من معانيّ أو وقاحة من وقاحتي! حتى لأجعل الزوجة لزوجها مثل الشعر البليغ إذا استعار لها معنى مني، وكل ما فسدت به المرأة فهو مجازي واستعارتي لها أجعلها به بليغة.
وأنتم يا أبا الحسن تقطعون حياتكم كلها تجاهدون إثم ساعة واحدة من حياة عبادي، فانظر -رحمك الله- لئن كانت ساعة من حياتهم هي جهنمكم أنتم، فكيف تكون جهنم هؤلاء المساكين؟
إنك رأيتني دخانا لأني كذلك أنبعث في القلب الإنساني، فمتى تحركت فيه حركة الشر كنت كالاحتيال لإضرام النار بالنفخ عليها؛ فمن ثم أكون دخانا، فإذا غفل عني صاحب القلب تضرمت في قلبه نارا تطلب ما يطفئها؛ ثم يواقع الإثم والمعصية ويقضي نهمته فأبرد عن قلبه، فيكون في قلبه مثل الحرق الذي برد فتأكل موضعه فتقيح، ثم يختلط قيح أعماله بمادته الترابية الأرضية، فينقلب هذا المسكين حمأة إنسانية لا تزال تربو وتنفخ كما رأيت.
قلت: أعوذ بالله منك! أفلا تعرف شيئا يرد عن القلب وأنت دخان بعد؟
فقهقه اللعين وقال: ما أشد غفلتك يا أبا الحسن، إذ تسأل الشيطان أن يخترع التوبة! أما لو أن شيئا يخترع التوبة في الأرض لاخترعها القبر الذي يدفن فيه بعضكم بعضا كل طرفة عين من الزمن، فتنزلون فيه الميت المسكين قد انقطع من كل شيء وتتركونه لآثامه، وحساب آثامه، والهلاك الأبدي في آثامه، ثم تعودون أنتم لاقتراف هذه الآثام بعينها.
قلت: عليك وعليك أيها اللعين؛ ولكن ألا يتبدد هذا الدخان إذا ضربته الريح أو انطفأ ما تحته!
قال: أوه! لقد أوجعتني كأنما ضربتني بحبل من نار، إن نبيكم عرفها ولكنكم أغبياء؛ تأخذون كلام نبيكم كأنما هو كلام لا عمل، وكأنه كلام إنسان في وقته كلام النبوة للدهر كله وللحياة كلها؛ ولهذا غلبت أنا الأنبياء على الناس، فإني أضع المعاني التي تعمل، لا الحكمة المتروكة لمن يعمل بها ومن لا يعمل.
أتدري يا أبا الحسن، لماذا أعجزني أسلافكم الأولون مثل: عمر وأبي بكر؟ حتى كان إسلامهم من أكبر مصائبي، فتركوني زمانا -وأنا الشيطان- أرتاب في أني أنا الشيطان؟
قلت: لماذا؟
قال: أراك الآن لم تلعن، فلست قائلها إلا إذا ترحمت علي.
قلت: عليك وعليك من لعنات الله! قل لماذا؟
قال: أسائل ويأمر؟ وطفيلي ويقترح؟ لا بد أن تترحم!
قلت: يرحمنا الله منك! قل لماذا؟
قال: وهذه لعنة في لفظة رحمة؛ لا، إلا تترحم علي أنا إبليس الرجيم!
قلت: فيغني الله عن علمك؛ لقد ألهمتنيها روح النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبوة كانت هي بأعمالها وصفاتها تفسيرا للألفاظ على أسمى الوجوه وأكملها، فكأن روح النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الأرواح كالأم لأبنائها؛ وقد رأوه لا يغضب لنفسه ولا لحظ نفسه، وذلك لا يستقيم إلا بالقصد في أمر النفس، وجعل ناحية الإسراف فيها إسرافًا في العمل لسعادة الناس. وكلما ارتد الإنسان لنفسه وحظوظها ارتد إليك -أيها اللعين- وأقبل على شقاء نفسه، وكلما عمل لسعادة غيره ابتعد عنك -أيها الرجيم- وأقبل على سعادة نفسه، وترك الغضب وحظوظ النفس هو الصبر على حوادث العمر كله، كصبر المسافر إن كان عزيمة مدة الطريق كلها، وإلا كان فسادًا في القوة ووقع به الخذلان.
فهذا الصبر المعتزم المصمم، الذي يوطن به الرجل نفسه أن يكون رجلا إلى الآخر, هو تعب الدنيا، ولكنه هو روح الجنة مع الإنسان في الدنيا. والمؤمن الصابر رجل مقفل عليه بأقفال الملائكة التي لا يقتحمها الشيطان ولا تفتحها مصائب الدنيا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره" , كأن يقول: لو لم يصبر المسافر دائبا معتزما مدة سفره كلها لما أنضى بعيره، ولو لم يصبر المؤمن مدة حياته كلها لما أنضى شيطانه.
فصاح الشيطان: أوه، أوه! ولكن قل لي يا أبا الحسن: ما صبر رجل مؤمن قوي الإيمان، قد استطاع بقوة إيمانه أن يفيق من سكر الغنى، فتخلص من نزوات الشياطين الذهبية الصغيرة التي تسمونها الدنانير؛ وقد أردته على أن يكذب، فرأى الإيمان أن يصدق؛ وجهدت به أن يغضب، فرأى الحكمة أن يهدأ؛ وحاولت منه أن يطمع، فرأى الراحة أن يرضى؛ وسولت له أن يحسد، فرأى الفضيلة ألا يبالي، وأخذ لنفسه من كل شيء في الحياة بما يثق أنه الإيمان والصبر والهدوء والرضا والقناعة؛ وأحاط نفسه من هذه الأخلاق بالسعادة القلبية واجتزأ بها؛ وقصر نظره على الحقيقة، ووجد الجمال في نفسه الطيبة الصافية؛ وأجرى ما يؤلمه وما يسره مجرى وحدًا؛ ونظر العمر كله كأنه يوم واحد يرقب مغرب شمسه؛ وأخذ من إرادته قوة أنسته ما لم تعطه الدنيا، فلم يحفل بما أعطت الدنيا وما منعت؛ وعاش على فقره بكل ذلك كما يعيش المؤمن في الجنة, هذا في قصر من لؤلؤة أو ياقوتة أو زبرجدة، وذاك في قصر من الحكمة أو من الإيمان أو من العقل.
قال الشيطان: فلما أعجزني صلاحا ورضى وصبرًا وقناعة وإيمانا واحتسابا، وكان رجلا عالما فقيها سولت له أن يخرج إلى المسجد ليعظ الناس فينتفعوا به، ويبصرهم بدينهم, ويتكلم في نص كلام الله؛ فعقد المجلس ووعظ، وانصرفوا وبقي وحده.
فجاءت امرأة تسأله عن بعض ما يحتاج إليه النساء في الدين من أمر طبيعتهن؛ وكانت امرأة جزلة غضة رابية، يهتز أعلاها وأسفلها، وتمشي قصيرة الخطو مثاقلة كالمتضايقة من حمل أسرار جمالها وأسرار بدنها الجميل؛ فبعض مشيتها يقظة وبعضها نوم فاتر تخالطه اليقظة؛ ولا يراها الرجل الفحل التام الفحولة إلا رأى الهواء نفسه قد أصبح من حولها أنثى، مما تعصف به ريحها العطرة عطر زينتها وجسمها.
وكان الواعظ قد ترمل من أشهر، وكانت المرأة قد تأيمت من سنوات؛ فلما رآها غض طرفه عنها؛ ولكنها سألته بألفاظها العذبة عن أمور هي من أسرار طبيعتها، وسألته عن طبيعتها بألفاظها؛ فسمع منها مثل صوت البلور، يتكسر بعضه على بعض.
وتحدثت له وكأنها تتحدث فيه: فسمع بأذنه ودمه، ثم كان غض عينه أقوى لرؤية قلبه وجمع خواطره.
ورأى صوتها يشتهي؛ وعانقته رائحتها العطرية النفاذة؛ وأحاطته بجو كجو الفراش؛ وعادت أنفاسها كأنها وسوسة قبل؛ وصارت زفراتها كالقدر إذا استجمعت غليانًا؛ وطلعت في خياله عريانة كما تطلع للسكران من كأس الخمر حورية عريانة، لها جسم يبدو من اللين والبضاضة والنعمة كأنه من زبد البحر؟
قال أبو الحسن: وكنت كالنائم، فما شعرت إلا بصوت كصك الحجر بالحجر، لا كتكسر البلور بعضه على بعض، وسمعت شيخي يقول:
أفسقت؟












مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید