المنشورات

أجنحة المدافع المصرية

استجنحي2 يا مدافع مصر وطيري، إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي. لقد مدت لغة القوة في هذا العصر مدها حتى أصبح الطيران بعض معاني المشي، ولم يعد العالم يدري كيف تكون الصورة الأخيرة التي يستقر فيها معنى إنسانه.
فلتتمجد مصر بإنسانها البرقي الذي تخرج النار بيده من أعراض السحاب، وتفرقع في أصابعه هزات الرعد، ويجعل في قبة السماء صلصلة وجلجلة، ويحمل الاسم المصري إلى معلق النجم، فيضع له هناك التعريف الناري الذي وضعته الدول العظمى لأسمائها.
ولتتمجد مصر بإنسانها البرقي الذي يشعرها حقيقة العلو العالي، والعمق العميق، والسعة التي لا تحد؛ ويزيد في معاني أحيائنا معنى جديدا لأحياء السحب، وفي معاني أمواتنا معنى جديدًا لموتى الكواكب.
إنسان برقي يتمم بشجاعته في السماء بطولة فلاحنا الإنسان الشمسي في الأرض، ويعلو بكبرياء مصر في ذروة العالم، فتظهر طياراتها العظيمة قدرة في الجو كما ظهرت آثارها العظيمة قدرة في الثرى.
إنها مصر، مصر القادرة التي سحرت القدم بقوتها وفنها، فبقي فيها على حاله وجلالته، وانهزم الدهر عنه كأنه قوة على قوة الزمن نفسها.
فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.
ولما فتح السجل ذات صباح لتكتب مصر أسماء الفوج الأول من نسورها الحربيين، صاح مجدها الخالد من أعماق التاريخ: "أضرمي الشعلة الآدمية الأولى يا مصر، وافتحي القبر الجوي الأول، وألحدي فيه من عنصريك المسلمين والأقباط، وضعي الحياة في أساس الحياة، واستقبلي عصرك الجديد بأذان المسجد ودق الناقوس ليباركه الله، وليتلق الشعب أول طياريه بقلوب فيها روح المعركة، وأكباد عرفت مس النار؛ ولا ينظرن إلى طياراته الأول إلا بعد أن ينظر النعشين فيرى مجد الموت في سبيل الوطن، فتسطع نظراته ببريق الكبرياء، ولمعة العزيمة، وشعاع الإيمان؛ ويتألق فيها النور السماوي الذي يجعل الناس في بعض ساعاتهم وكواكب نور صلاة الشعب على موتاه الشهداء".
واستجاب القدر لصوت المجد، فالتج الظلام في وضح الصبح، وانطفأ سراج النهار في قبة الفلك، وأطبقت نواحي الجو إطباق ليلة تساقطت أركانها وأقبل الضباب يعترض اعتراض جبل عائم يتذبذب في بحر، واستأرض السحاب فتخلى عن طبيعته السماوية الرقيقة، وتذامرت العناصر على القتال يحض بعضها بعضا، وتغشت السماء بوجه الموت: كلح فاربد وانتفخ، وتكسرت فيه الغضون كل غضن كسفة ظلام، وعاد أوسع شيء أضيق شيء، فكان الفضاء كصدر المحتضر؛ ليس معه إلا عمر ساعة وأنفاسها.
وابتدرت إلى مجد الموت الطيارة المصرية الأولى؛ وكان فيها إنكليزيان يقودانها فأباها الموت، فذهبت فانتحرت أسفا وتردت متحطمة، وانسل الرجلان من مخالب الردى، وكانا في الطيارة كورقتين من النبت في فم جرادة همت تقضمهما ...
وتستبق الثانية فإذا فيها وديعة الكرم من عنصري مصر: "حجاج ودوس"1 وكان سرا من أسرار مصر اجتماعهما في مداحض الغمام ومزالقه، ليكونا هدية مصر الأولى إلى مجدها الحربي، ثم ليكونا هدية المجد إلى إحساس هذا الشعب يحس منهما العالم المنطوي له في مستقبل النصر.
واعتسفت طيارة الشهيدين طريق الفناء ومتاهة الحياة، فذهبت عنها معارف الأرض، وعميت عليها معالم السماء، وخرجت من تصريف أيدي البطلين إلى تصريف أجلهما، وأصبحت كأنها تطير في الأنفاس الباقية لهما؛ فما تتقدم ولا تتأخر؛ ولم تكن طيارة تحملهما، بل جناحا ممدودًا من رحمة الله.
ثم اجترها الموت إلى غور، فانحطت من الهواء جانحة كالطائر يطلب ملجأ في العاصفة، ثم انتهضت واثبة، وتمطرت منقلبة، فاشتعلت فاستعرت فأنضجت راكبيها، رحمهما الله!
وكثيرًا ما يكون منظر الحزن في الحياة هو انهماك الحياة في عمل جديد تبدع منه السرور والقوة. احتراق البطلان لتتسلم مصر في نعشيهما رمادًا لن يبني تاريخ العزة الوطنية إلا به.
فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.
صنعت النار الآدمية الحقيقة، ووضعت لنا الاسم البديع الذي نطلقه على طيارينا الأبطال، فلا تسموهم نسور الجو، ولكن سموهم "جمرات الجو".
صنعت نارنا الحقيقة، وأوحت إلينا أن نستبدل من أنفسنا حالة بحالة، وأن نفاجئ شعورنا الحالم فنصدمه بالآلام اليقظة المرة، وأن نغير قاعدة الحياة في التربية المصرية فلا تكون: العيش العيش، ولكن القوة القوة.
صنعت النار الحقيقة، وأثبتت لنا أن الحياة إن هي إلا أداة للحي، وليس الحي أداة للحياة، فليتصرف بها على قوانين الروح وآمالها فيسمو تسمو، ولا يدعها تتصرف على مذاهب أقدار المادة وتصاريفها فيذلها وتذله. وفي قانون الروح: لا قمية لعالم الأشياء إلا كما تصلح لنا؛ وفي قانون المادة وضغطة الحياة: كما تصلح لنا وكما نصلح لها ...
بلى، قد صنعت النار الآدمية الحقيقة، وأعطتنا قصة الحرية كاملة في معنى واحدة: وهو أن هذه الحرية لعاشقيها كأجمل الجميلات للمتنافسين عليها: جمالها متوحش، وخلاعتها مفترسة، وظرفها سفاك للدم.
فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.
وإلى السماء يا "جمرات الجو"، فإذا استويتم على السحاب، فليست الطيارة ثم طيارة، بل حقيقة حية عاملة للمجد، فلتحمل معناها المصري من بطلها المصري.
وإذا سبحتم في مهبط القدر، فليس الطيار ثم طيارًا، بل حياة عبقرية أرسلتها مصر تستنزل للحياة أقدارًا سعيدة.
وإذا خضتم في المعرك الضنك تتبعثر فيه الآجال على الرياح، فليس الجسم المصري هناك من لحم ودم، بل ناموسا طبيعيا ماضيا إلى غاية.
وإذا تقاذفتم في بحر الشمس، فأنتم هناك على شباك طرحتموها لصيد أيام مضيئة تلتمع في تاريخ مصر.
وإذا نفذتم من أقطار السماوات، فانظروها بأعينكم معالي مصر، وافهموها بقلوبكم ذاتية الوطن المصري تعلو وتعلو ولا تزال أبدًا تعلو.
إنما الطيارة وسلاحها وطيارها تأليف من الإنسانية والعناصر، معناه في العزيمة "لا بد". ومتى هدرت الطيارة هديرها فإنما تقول للبطل منكم: هلم من عال إلى أعلى، إلى أكثر علوا، إلى أقصى حدود الواجب على النفس حين يأخذ الواجب الكل وحين تعطي النفس الكل.
فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.














مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید