المنشورات
أحاديث الباشا الطماطم السياسي:
كان "م" باشا* رحمه الله داهية من دهاة السياسة المصرية، يلتوي مرة في يدها التواء الحبل، ويستوي في يدها مرة استواء السيف, ولا يرى أبدًا إلا منكمشا متحرزا كأن له عدوا لا يدري أين هو ولا متى يقتحم عليه، ولكنه كغيره من الرؤساء الذين كانوا آلات للكذب بين طالب الحق وغاصب الحق, يعرف أن عدوه كامن في أعماله.
وكان ذكيا أريبا، غير أن ملابسته للسياسة الدائرة على محورها، جعلت نصف ذكائه من الذكاء ونصفه من المكر؛ فكان في مراوغته كأن له ثلاثة عقول: أحدها مصري, والآخر إنجليزي، والثالث خارج من الحالين.
وبهذا تقدم وعاش أثيرًا عند الرؤساء من الإنجليز، واستمرت مجاريه مطردة لديهم حتى بلغوا به إلى الوزارة، إذ كان حسن الفهم عنهم، سريع الاستجابة إليهم؛ يفهم معنى ألفاظهم، ومعنى النية التي تكون وراء ألفاظهم، ومعنى آخر يتبرع هو به لألفاظهم ... فكان هو وأمثاله في رأي تلك السياسة القديمة، رجالا كالأفكار: يوضع أحدهم في مكانه من الحكم كما توضع صيغة الشك لإفساد اليقين، أو صيغة الوهم لتوليد الخيال، أو صيغة الهوى لإيجاد الفتنة.
وكان صديقي "فلان" -رحمه الله- صاحب سره "السكرتير"، وقد وثق به الباشا حتى أنه كان يعالنه بما في نفسه، ويبثه همومه وأحزانه، ويرى فيه دنيا حرة يخرج إليها كلما ضاقت به دنيا وظيفته، ويستعير منه اليقين أحيانا بأنه لا يزال مصريا لم يتم بعد تحويله في الكرسي ...
فحدثني الصديق بعد موت هذا الباشا قال: إنه دعاه يوما ليفاتحه الرأي في أمر من أموره، ثم قال له: إن الرئيس الإنجليزي غير مطمئن إليك لأن حقيقة من الحقائق الصريحة ظاهرة على وجهك، فأنت تنظر إليه وكأنك تقول له بعينيك: إنك مصري مستقل.
قال صاحب السر: لئن كان ذلك ما يغضبه إن الخطب لهين، فلست أنظر إليه بعد اليوم إلا من وراء نظارة سوداء ...
فضحك الباشا وقال: يا بني، هذا الإنجليزي عندنا كالشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] ، ووالله يا بني إني لأشد أنفة منك، وإن صدري لشجي مما أنا فيه من هذا الكرب، ولكننا -نحن الشرقيين- قد ضعنا منذ فقدنا الشخصية الاجتماعية.
أتراك تفهم شيئا لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ إن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام: فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذ أفردت معنى صحيح يقوم بها وتقوم به، غير أنه يتحول في الجملة إلى معنى كلا معنى.
أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان، ونسي معنى الحديث الشريف: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا". فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله: "كأنك تعيش أبدًا"؟ إلا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها، فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها.
هذه حكمة إسلامية دقيقة، عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها، أهم المسلمون أم نحن؟
وعلى قاعدة الانفراد انفراد كل شيء؛ فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعيا مع هذا أن يختصر الدين اختصارًا يجعله مقدارا بين مقدارين، فلا هو دين ولا هو غير دين؛ وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه؛ فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذبا على درهم، ويصلي ويفجر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معا.
ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها،كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا من يرجو أن تكون مغفلا، أو من قدر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين ... ويكذبون في هذا أيضا فيسمونه حذاقا وبراعة "وشطارة".
وإذا عم الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجد الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونًا؟ ومن الهزل ضرب هو المباسطة بالكذب، ومنه ضرب من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما درات الحال لا تجده إلا كذبًا.
ومتى صار الكذب أصلا يعمل عليه، تقرر عند الناس أن الكلام أنما يقال ليقال فقط. أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟
ولا أضر على الأمة من هذه العقيدة -عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط- فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة، وعلى كل أحوالها، وعلى حكومتها أيضًا.
ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء، حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين، نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا.
هذه مبالغة خطرة، وأخطر ما فيها أننا بها نريد المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغة في الدلالة علينا نحن، وعلى كذب طباعنا، وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا، من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها؛ وأن لا صبر لنا، من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة؛ وأن لا شدة لنا في طلب الحق، لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق؛ وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالا ولا نخشى ما يكون من عاقبته.
وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير، أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح؛ وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة.
ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية، ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله، فيديرها على ذلك وإن قلت منفعتها، وإن فسدت حقيقتها، وإن جلبت عليه من الضرر في ماله ونفسه ما هي جالبة؛ فقاعدتهم هي هذه: ليس الشأن في الحياة للعمل في نفسه، ولكن فيما يقال عنه؛ فإن لم يقل شيء فلا تعمل شيئا ...
هذه يا بني أمة لا يكون حكامها إلا مبالغات أيضا ...
قال صاحب السر: وراتفع من الطريق صوت بائع ينادي على سلعته: أحسن من التفاح يا طماطم.
فضحك الباشا وقال: هكذا يقولون لنا عن الطماطم السياسي العفن: إنه ليس تفاحا وحسب، بل هو أحسن من التفاح.
إن الأمة لن تكون في موضعها إلا إذا وضعت الكلمة في موضعها، وإن أول ما يدل على صحة الأخلاق في أمة كلمة الصدق فيها، والأمة التي لا يحكمها الصدق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذبا وهزلا ومبالغة.
مصادر و المراجع :
١- وحي القلم
المؤلف: مصطفى
صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية
الطبعة: الأولى
1421هـ-2000م
عدد الأجزاء: 3
19 يوليو 2024
تعليقات (0)