المنشورات
تجديد الإسلام: رسالة الأزهر في القرن العشرين *
"الأزهر" هذه هي الكلمة التي لا يقابلها في خيال الأمة المصرية إلا كلمة الهرم؛ وفي كلتا اللفظتين يكمن سر خفي من أسرار التاريخ التي تجعل بعض الكلمات ميراثًا عقليًّا للأمة، ينسي مادة اللغة فيها ولا يبقي منها إلا مادة النفس؛ إذ تكون هذه الكلمات تعبيرًا عن شيء ثابت ثبات الفكرة التي لا تتغير، مستقر في الروح القومية استقراره في الزمن، متجسم من معناه كأن الطبيعة قد أفردته بمادته دون ما يشاركه في هذه المادة؛ فالحجر في الهرم الأكبر يكاد يكون في العقل زمانًا لا حجرًا، وفنًّا لا جسمًا؛ والمكان في الأزهر يغيب فيه معنى المكان وينقلب إلى قوة عقلية ساحرة توجد في المنظور غير المنظور.
وعندي أنَّ الأزهر في زماننا هذا يكاد يكون تفسيرًا جديدًا للحديث: "مصر كنانة الله في أرضه" فعلماؤه اليوم أسهمٌ نافذةٌ من أسهمِ الله يرمي بها من أراد دينه بالسوء، فيمسكها للهبة ويرمي بها للنصر؛ ويجب أن يكون هذا المعنى أول معانيهم في هذا القرن العشرين الذي ابتلي بملء عشرين قرنًا من الجرأة على الأديان وإهمالها والإلحاد فيها.
أول شيء في رسالة الأزهر في القرن العشرين أن يكون أهله قوة إلهية معدة للنصر، مهيأة للنضال، مسددة للإصابة، مقدرة في طبيعتها أحسن تقدير، تشعر الناس بالاطمئنان إلى عملها، وتوحي إلى كل من يراها الإيمان الثابت الثالث بمعناها؛ ولن يأتي لهم هذا إلا إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحيحة، فلا يكون العلم تحرفًا ولا مهنة ولا مكسبة3، ولا يكون في أوراق الكتب خيال "أوراق البنك" ... بل تظهر فيهم العظمة الروحانية آمرة ناهية في المادة، لا مأمورة منهية بها؛ ويرتفع كل منهم بنفسه، فيكون مقرر خلق في الحياة قبل أن يكون معلم علم في الحياة؛ لينبثَّ منهم مغناطيس النبوة يجذب النفوس بهم أقوى مما تجذبها ضلالات العصر؛ فما يحتاج الناس في هذا الزمن إلى العالم -وإن الكتب والعلوم لتملًا الدنيا- وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم.
وقد عجزت المدنية أن توجد هذا الضمير، مع أن الإسلام في حقيقته ليس شيئًا إلا قانون هذا الضمير؛ إذ هو دين قائم على أن الله لا ينظر من الإنسان إلى صورته ولكن إلى عمله؛ فأول ما ينبغي أن يحمله الأزهر من رسالته: ضمائر أهله.
والناس خاضعون للمادة بقانون حياتهم، وبقانون آخر هو قانون القرن العشرين.. فهم من ثم في أشد الحاجة إلى أن يجدوا بينهم المتسلط على المادة بقانون حياته؛ ليروا بأعينهم القوى الدنيئة مغلوبة، ثم ليجدوا في هذا الإنسان أساس القدوة والاحتذاء، فيتصلوا منه بقوتين: قوة التعليم، وقوة التحويل.
وهذا هو سر الإسلام الأول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له شيء يصده؛ إذ كان ينفذ في الطبيعة الإنسانية نفسها.
ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم؛ فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير.. وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد إسلامه.
والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا؛ بل هي من أسباب هذا الشر؛ لأن لها وجودًا سياسيًّا ووجودًا مدنيًّا؛ أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه؛ وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة؛ إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض؛ بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة، وفقد القوة التي كان يحكم بها، وهي قوة المثل الأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة: إنسانًا تتخيره المعاني السياسية تظهر فيه بأسلوب عملي، فيكون في قومه ضربًا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها، مشروحة بهذا المثال نفسه.
والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوى الحياة.
لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، فهم يتبعونهم، ويتأسون بهم، ويمنحونهم الطاعة، وينزلون على حكمهم، ويلتمسون في سيرتهم النفس لمشكلات النفس، ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة؛ وكان غنى العالم الديني شيئًا غير المال، بل شيئًا أعظم من المال؛ إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقر؛ وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو، وفيها كل سلطان الخير والشر؛ لأن فيها كل النزعات الاستقلالية؛ ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها.
وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها؛ فيجب عليهم أن يحققوا وجودهم، وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة، لا طلابًا يرتزقون بالعلم.
أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع ... وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها؟
لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه؛ ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وأن ينقي عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر، وقانونها العملي الذي فيها سعادتها وقوتها.
ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئًا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئًا في عمله لهذه القيادة، آخذًا بأسباب هذا العمل، ملحًا في طلب هذه الأسباب، مُصِرًّا على هذا الطلب؛ وكل هذا يكون عبثًا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة؛ لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف؛ والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية، مطاع بحكمه فيها، محبوب بطاعتها له.
والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة..
ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس، وأن يدفع الحركة الدينية دفعًا بوسائل مختلفة، أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، من مدرسة حرية الفكر.. فنازلًا، والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا.
وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل، وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية في الدعوة.
العلماء ورثة الأنبياء؛ وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة؛ فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط.
وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة، المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها -اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين، بعد أن يكون قد حقق الذرائع إلى هذه الرسالة، من فتح باب الاجتهاد، وتنقية التاريخ الفقهي، وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة؛ ثم استخراج أسرار القرآن الكريم الكامنة فيه، لهذه العصور العلمية الأخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد، لا ينكره هذا ولا يغيره ذاك، وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه.
أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوربا وأمريكا واليابان، بلغات الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين، في ألسنة أزهرية مرهفة مصقولة، لها بيان الأدب، ودقة العلم، وإحاطة الفلسفة، وإلهام الشعر، وبصيرة الحكمة، وقدرة السياسة؛ ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسان واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر؛ ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها؛ فتكون المتكلمة عنه، والحاملة لرسالته، وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوربا إلا أول تاريخ تلك الألسنة.
إن الوسيلة التي نشرت الإسلام من قبل لم تكن أجنحة الملائكة، ولا كانت قوة من جهنم؛ ولا تزال هي تنشره؛ فليس مستحيلًا ولا متعذرًا أن يغزو هذا الدين أوربا وأمريكا واليابان كما غزا العالم القديم، ولم يكن السلاح من قبل إلا طريقة لإيجاد إسلام في الأمة الغريبة عنه، حتى إذا وجد تولي هو الدعوة لنفسه بقوة الناموس الطبيعي القائم على أن الأصلح هو الأبقى، وانحازت إليه الإنسانية؛ لأنه قانون طبيعتها السليمة، ودين فطرتها القوية، وقد ظل الإسلام ينتشر ولم يكن يحمله إلا التاجر، كما كان ينتشر وحامله الجيش؛ فليس علينا إلا تغيير السلاح في هذا العصر وجعله سلاحًا من فلسفة الدين وأسرار حكمته؛ فهذا الدين كما قلنا في بعض كلامنا1: أعمال مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العلمي المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى؛ وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه: لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو ويجد ما يثبت، والثبات يوجد ما يدوم؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله: "نضر الله امرأ سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع".
أما والله إن هذا المبلغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن عرفنا كيف نبلغ.
أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينشر الدين على يده في أوربا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام محمد عبده -رحمه الله- إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون عمل فلاسفة الأزهر استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله؛ ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها، والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به.
هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين، ويجب أن يتحقق بوسائلها من الآن؛ ومن وسائلها أن يعالن بها؛ لتكون موثقًا عليه. ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكر إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة؛ فتكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه، ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم.
وبهذه الألقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة، ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية، ويحقق لنفسه المعنى الجامعي.
وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أيامًا في كل سنة يجمع فيها من المسلمين "قرش الإسلام"؛ ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله، وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم الإسلامية ومواسمها الكبرى، وخاصة موسم الحج.
وهذا العمل هو نفسه وسيلة من أقوى الوسائل في تنبيه الشعور الإسلامي، وتحقيق المعاونة في نشر الدين وحياطته؛ وعسى أن تكون له نتائج اجتماعية لا موضع لتفصيلها هنا، وعسى أن يكون "قرش الإسلام" مادة لأعمال إسلامية ذات بال، وهو على أي الأحوال صلة روحية تجعل الأزهر كأنه معطيه لكل مسلم لا آخذه.
والخلاصة أن أول رسالة الأزهر في القرن العشرين: اهتداء الأزهر إلى حقيقة موضعه في القرن العشرين: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] .
مصادر و المراجع :
١- وحي القلم
المؤلف: مصطفى
صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية
الطبعة: الأولى
1421هـ-2000م
عدد الأجزاء: 3
19 يوليو 2024
تعليقات (0)