المنشورات

صعاليك الصحافة

لما ظهر كتابي "وحي القلم"1 حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إليهم؛ ليقرؤوه ويكتبوا عنه، وأنا رجل ليس في أكثر مما في، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع؛ فما أعلم في طبيعتي موضعا للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكانًا من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهدي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم، وإما إنذار حرب لغير هؤلاء!
والقرآن نفسه قد أثبت اللهُ فيه أقوال من عابوه، ليدل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقربها ويقْبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار.
والشعور بالحق لا يخرس أبدًا؛ فإذا كانت النفس قوية صريحة مر من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال: لا أو: نعم صدق فيهما؛ وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة؛ إذ يكون شعورًا بالحق يغطيه غرض آخر كالحسد ونحوه، فإن قال: لا أو نعم كذب فيهما جميعًا.
وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالًا يسألني به المكان: لماذا لم تجئ؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريض ومتأدب ناشئ، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافيًّا لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع..
وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمت نقصت، وكلما نقصت تمت؛ إذ كان مدار الأمر فيها على اعتبار أكثر من يقرؤونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين؛ وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية؛ فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ.. وما بد أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها، فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد، لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها؛ ثم هي عمل الساعة واليوم، فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح؛ إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان.
ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها؛ فإن أساس النبوغ "ما يجب كما يجب"؛ ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق؛ أما هي فأساسها "ما يمكن كما يمكن" ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير.
فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا إذا نضج وتم وأصبح كالدولة على "الخريطة"، لا كالمدينة في الدولة في الخريطة؛ فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله.. ثم هو يمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجًا من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق، لا كمصباح من مصابيح الشارع!
وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكانًا طبيعيًّا لرجل السياسة قبل غيره؛ إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلًا ومجيبًا، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي.. والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعًا، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعًا!.
ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي "وحي القلم" إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية؛ ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريهما دورة وحشية كأنما رعبته الحياة مذ كان جنينًا في بطن أمه؛ لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه هذا النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو قد خلق بهاتين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل قد أرسل لتدقيق النظر.
وقال الذي عرفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ.. وهو أديب الجريدة.
قلت: شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟
فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة، يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح: بالرغيف والجبن والبيض والقرش..
قلت: إنا لله! فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا؟ وكيف خبت في الصحافة وكنت رأسًا في الكلام؟
قال: نجحت أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجلًا واحدًا هو قانون كل رجل هنا.
قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟
قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها، والجهات النازلة وما يوحيه إليها، وقانون الصلة بين الجهتين وهو..
قلت: وهو ماذا؟
فحملق في وقال: ما هذه البلادة؟ وهو الذي "هو".. أما ترى الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخيرني -ولك الدولة والصولة عند القراء- ألم تر بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب؟
قلت: يا أبا عثمان، فماذا تكتب هنا؟
قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في ... وفي ... وفي؟ ... لقد كنا نروي في الحديث: "يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها"؛ فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة ...
قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة.
قال: القراء ما القراء؟ وما أدراك ما القراء؟ وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياء، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة؟ إن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة ... وما دام المبدأ هو الكذب، فالمظهر هو الهزل؛ والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة؛ وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم "صعاليك الصحافة".
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير، فنهض إليه، ثم رجع بعينين لا يقال فيهما جاحظتان، بل خارجتان ... وقال: أف. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] .
"كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل سعيه"*.
قلت: ماذا دهاك يا أبا عثمان؟
قال: ويحها صحافة! قل في عمك ما قال المثل: جحظ إليه عمله**.
قلت: ولكن ما القصة؟
قال: ويحها صحافة! وقال الأحنف: أربع من كن فيه كان كاملًا، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياة يقناه". وقال: "المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يفتنه، وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله". وقال الحسن بن علي: *** ...
قلت: يا شيخنا، دعنا الآن من الرواية والحفظ والحسن والأحنف؛ فماذا دهاك عند رئيس التحرير؟
قال: لم أحسن المهاترة في المقال الذي كتبته اليوم ... ويقول رئيس التحرير: إن كان نصف التمويه رذيلة؟ فإن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه. ويقول: إن سمو الكتابة انحطاط فصيح؛ لأن القراء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية. وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والجد والقوة؛ ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور الممثلات المغنيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي؟
ويقول رئيس التحرير: إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التاريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي؛ لأن القروش هي القروش والتاريخ هو التاريخ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي؛ ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا يرد منه شيء!
إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة، كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها أخبار تروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء ...
ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير ...
















مصادر و المراجع :      

١- وحي القلم

المؤلف: مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية

الطبعة: الأولى 1421هـ-2000م

عدد الأجزاء: 3

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید